مع عقد مؤتمرها في طهران:
شتان ما بين ماضي وحاضر مجموعة دول عدم الانحياز!!



استضافت العاصمة الايرانية طهران في منتصف هذا الاسبوع اجتماع القمة الدوري الخامس عشر لممثلي مجموعة دول عدم الانحياز. وعقد هذا المؤتمر بمستوى وزراء الخارجية. وعقد هذا المؤتمر ليس بمستوى مشاركة رؤساء الدول والحكومات يعكس، اضافة الى مؤشرات ودلائل اخرى، انخفاض ما في الوزن النوعي السياسي المؤثر لهذه المجموعة على صياغة القرارات المتعلقة بطابع التطور على حلبة الصراع العالمي. فمن الظواهر البارزة الى جانب تدني المستوى السياسي الرسمي للمشاركين في قمة طهران تبرز ظاهرتان اساسيتان، الظاهرة الاولى انخفاض عدد المشاركين نسبيا، فعدد اعضاء مجموعة دول عدم الانحياز المسجلين يبلغ مئة وثمانية عشر، بينما يشارك في مؤتمر طهران وزراء خارجية ثمانين دولة فقط اضافة الى وفد الجامعة العربية. والظاهرة الثانية ان انظمة الدول المؤسسة لهذه المجموعة في اواسط الخمسينيات من القرن الماضي مثل الهند واندونيسيا ومصر جمال عبد الناصر تتغيب عن الحضور، وغياب مصر كان احتجاجيا يعكس معالم تردي العلاقات بين مصر وايران في السنوات الاربع الاخيرة ان صدور فيلم ايراني عن "الفرعون" الذي يتهم فيه الرئيس المصري السابق انور السادات بالخيانة الوطنية، ويتخذ نظام مبارك هذا الامر ذريعة لاساءة العلاقة مع ايران مع ان الاسباب الحقيقية لتردي العلاقات بين البلدين تعود الى التناقض الصارخ بين موقف نظام البلدين من استراتيجية عولمة ارهاب الدولة الامريكية المنظم بهدف الهيمنة الامبريالية الامريكية، ولهذا اكتفت مصر بارسالة وكيلة وزارة الخارجية المصرية نائلة جبر للمشاركة.
ان انخفاض الوزن النوع لمجموعة دول عدم الانحياز في التأثير على صياغة القرار الدولي المتعلق بالتطور العالمي او حتى بتطور بلدان هذه المجموعة لا يعني ابدا انه لم تعد هنالك حاجة موضوعية وضرورية لبقاء ونشاط هذا التكتل والمحور الدولي دفاعا عن مصالح بلدانه في مواجهة دناصير الاستغلال والتمييز والقهر السائدة في ظل هيمنة الطابع الهمجي للعولمة الرأسمالية الذي تقود رسنه محاور الدول الرأسمالية الصناعية المتحدة وخاصة الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الاوروبي واليابان، وبصورة ادت مجموعة دول الثماني الصناعية الرأسمالية الكبرى. ما تستدعي الضرورة الموضوعية اخذه بالاعتبار هو اعادة تقييم هذه المجموعة على ضوء المتغيرات الجدية الدولية التي حدثت وعكست تأثيرها المباشر على هذه المجموعة وبلدانها وعلى طابع نشاطها ومواقفها، تغيرات تستدعي البحث الجدي عن آليات ووسائل جديدة ترتقي الى مستوى متطلبات واحتياجات الدول النامية التي تؤلف قاعدة مجموعة دول الانحياز، الدفاع عن مصالح هذه المجموعة في ساحة الصراع مع تكتلات حيتان الاستغلال الرأسمالي في التقسيم العالمي للعمل الرأسمالي.
ان معطيات الواقع التاريخي للصراع العالمي تعكس حقيقة انه شتان ما بين ماضي وحاضر مجموعة حركة دول عدم الانحياز من حيث الطابع والهوية والمدلول السياسي. فمن حيث معطيات الواقع التاريخي نشأت مجموعة دول عدم الانحياز كاطار تنظيمي لدول مستقلة حديثا من نير الاستعمار في مؤتمر باندونغ بأندونيسيا، وكان ابرز قادة هذه المجموعة التي دعت لمؤتمر باندونغ، كان في مقدمتهم خالد الذكر الرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس الهندي جواهر نهرو والاندونيسي احمد سوكارنو واليوغسلافي تيتو فمؤتمر باندونغ الذي عقد في العام الف وتسعمئة وخمسة وخمسين كانت ظروف التطور الموضوعي تحتم ان يكون طابع مجموعة عدم الانحياز مناهضا للامبريالية المهزومة بتحطيم نظامها النازي الفاشي والعسكري في المانيا وايطاليا واليابان وبتفكك وانهيار امبراطورياتها الاستعمارية البريطانية والفرنسية والبرتغالية والهولندية. ولا يتخلى الذئب عن فريسته بسهولة، فحاولت الامبريالية التي خرجت مهزومة ومنهوكة القوى بعد الحرب العالمية الثانية، حاولت خاصة بعد ارتفاع اسهم الاتحاد السوفييتي قاهر الفاشية الهتلرية في عقر دارها ومحرر الكثير من شعوب اوروبا الشرقية وقيام اسرة الدول الاشتراكية وحلف وارسو العسكري، حاولت الامبريالية، وخاصة الامريكية التكيف مع الوضع الجديد من خلال الترهيب والترغيب، الترهيب باقامة الاحلاف العسكرية امثال الحلف الاطلسي و"حلف السياتو" جنوب شرق آسيا و"حلف السنتو" أي الحلف المركزي ومركزه العاصمة العراقية بغداد، اقامة هذه الاحلاف كوسيلة ارهابية في "الحرب الباردة" الايديولوجية السياسية العسكرية الامبريالية ضد الاتحاد السوفييتي والبلدان النامية المتحررة حديثا. اما الترغيب فهي ممارسة سياسة الاستعمار الجديد، ان يعود المستعمرون الى مستعمراتهم من الشبابيك بعد ان طردوا من ابوابها وذلك عن طريق تقديم مختلف اشكال المساعدة الامبريالية الاقتصادية والعسكرية لبناء قواعد "طابور خامس" مأجور يخدم مصالح التغلغل الاستعماري من جديد.
ولهذا، فان قيام مجموعة دول عدم الانحياز قد جاء في وقت ارتفاع درجة حرارة الحرب الباردة بين العملاقين، الاتحاد السوفييتي الاشتراكي والولايات المتحدة الامريكية الرأسمالية، من حلف وارسو والحلف الاطلسي، وفي اطار الصراع بين هاتين القوتين لم يضع قادة مجموعة دول الانحياز البوصلة في تحديد الموقف والذي عبر عنه الرئيس المصري خالد الذكر جمال عبد الناصر بقوله "نعادي من يعادينا ونصادق من يصادقنا". وكانت الترجمة الحقيقية لهذه المقولة على ارض الواقع مناهضة ومعاداة للامبريالية ومخططاتها التآمرية العدوانية ضد البلدان النامية مقابل بلورة علاقة صداقة وتعاون استراتيجية بين الدول النامية وصيانة استقلالها السياسي وتعزيزه بشكل يخدم المصالح الحقيقية لشعوبها دون ان يعمل على تحويل أي بلد صديق يتعاون معه الى محمية سوفييتية تابعة تنتقص من سيادته الوطنية كما يفعل المستعمرون والامبرياليون، ولهذا فانه في ظل وجود الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، وبالرغم من الحرب الباردة والعربيدة العدوانية التآمرية الامبريالية، وبمساندة اسرة الدول الاشتراكية استطاعت العديد من الدول النامية مثل مصر والهند والجزائر وسوريا والعراق وفيتنام وكمبوديا ان تبني قواعد التنمية الاقتصادية فيها، من قواعد صناعية واصلاحات زراعية، وقواعد الامن القومي لحماية اوطانها من انياب المعتدين المفترسة.
لقد ادى انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي الى خلل صارخ في نيران القوى العالمية وبضمنه في طابع وبنية ودور مجموعة دول عدم الانحياز. فقادة مجموعة دول عدم الانحياز التاريخيين قد غير وارثوهم في سلطة بلدانهم الهوية السياسية المنتهجة مئة وثمانية درجة. فالنظام المصري اليوم ومنذ الردة الخيانية الساداتية هو نظام منحاز في اطار خدمة الاستراتيجية الامبريالية الامريكية في المنطقة ويعتبر حليفا لامريكا وليس لقضايا البلدان النامية، والنظام الهندي اليوم يعتبر من الحلفاء الاستراتيجيين المقربين من الامبريالية الامريكية، نظام منحاز لا يربطه اية رابطة عضوية باهداف مجموعة دول الانحياز التي ساهم نهرو في اقامتها.
اما جمهوريات يوغسلافية الفدرالية فقد انهارت وتفككت الى دويلات قومية واثنية تتحكم قوى بلدان الحلف الاطلسي والامبريالية الامريكية بمصير تطورها.
حقيقة هي ان مقاييس "عدم الانحياز"، قد تغيرت جذريا من جراء الواقع المتغير، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وهيمنة القطب الامريكي، واكثر ما يجب مواجهته والتحذير منه هو محاولة طمس وتجاهل ودفن العامل الايديولوجي الطبقي من ساحة التطور والصراع في عالمنا. فمنظرو وسياسة المحافظين الجدد ارباب نظرية النيولبرالية يلجأون في الآونة الاخيرة، في السنوات الاخيرة الى وضع هالة قدسية الهية على الخصخصة ومحاربة الارهاب، وكان الصراع هو بين محور الخير ومحور الشر، صراع حضارات بين بلدان الجهالة في الجنوب، وخاصة البلدان الاسلامية والعربية وبلدان الشمال المتحضرة والراقية، فاستبدال الحرب الكونية ضد الشيوعيين والتغلغل السوفييتي الذي كان قائما بالحرب الكونية ضد الارهاب التي تدفعها انظمة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وفرنسا والمانيا وغيرها، ومحاولتها اقامة احلاف سياسية – استراتيجية حول هذا المفهوم مثل مشروع الشرق الاوسط الكبير او الجديد، او التحالف حول البحر المتوسط وغيره، كل ذلك يستهدف طمس حقيقة الصراع في عصرنا وتعزيز مكانة الطابع الشرس للعولمة الرأسمالية.
اننا ندرك حقا ان لايران نفوذ مؤثر على الساحة الدولية، خاصة في منطقة الخليج والشرق الاوسط، وقد ازداد تأثير نفوذها في السنوات الاخيرة. كما ندرك حقيقة وحدود التناقضات القائمة بين ايران والامبريالية الامريكية، ونؤيد مواقف ايران في تصديها للغطرسة العدوانية الامريكية الاسرائيلية، ولكننا لا ننتظر من مؤتمر وزراء خارجية مجموعة دول عدم الانحياز ان يخرج بقرارات حاسمة تجند البلدان النامية في معركتها لمواجهة ظلم العولمة والفقر والمجاعة والتخلف الاقتصادي. فمقترحات الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد في المؤتمر يحتاج بعضها لدراسة معمقة حول بعض خطى التكامل الاقتصادي ولكن الصراع العالمي جوهره الاساسي ليس بين محور الشر الامبريالي ومحور الشر او الخير الاسلامي او الارهاب العالمي.
برأينا، انه لاستعادة الانفاس الصحية والدور الفاعل لمجموعة دول عدم الانحياز لا مفر من التمسك بالموقف الصحيح الذي يطالب فيه قادة مجموعة دول عدم الانحياز منذ ايام عبد الناصر مرورا بالرئيس الجزائري ابو مدين الى الرئيس الكوبي فيدل كاسترو والرئيس الفنزويلي هوغو شافيز، الموقف الذي يطالب باقامة نظام اقتصادي عالمي ينصف الدول النامية المتخلفة اقتصاديا، يشطب ديونها المتراكمة، ويزودوها ويدعمها بآخر منجزات الثورة العلمية – التقنية الحديثة، ويعدل قوانين التبادل التجاري والاسعار الجائرة، نظام عالمي جديد يكون بديلا لطابع العولمة الرأسمالية الهمجي والتمييزي القائم، فاقامة نظام عالمي جديد يكون كذلك مناهضا لهيمنة القطب الامريكي كونيا، نظام تسنده قوى مخلصة لتغير وتخدم مصالح جميع الشعوب وتطورها الحضاري، نظام كهذا ممكن اقامته اذا توفرت ظروف ومناخ تعاون بناء بين عدد من البلدان النامية امثال كوبا وفنزويلا وايران وسوريا والجزائر وبالتعاون مع الصين وروسيا ومع كل نظام يناهض الهيمنة الامريكية والطابع الشرس للعولمة الرأسمالية.

د. احمد سعد
الجمعة 1/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع