الزائر من عيلوط



كان أكبر أصدقائي هو أخي غير الشقيق سامي. وكان يكبرني بحوالي ثلاثين سنة،  كان هذا الأخ الرجل الإبن المحظي والمعتمد عند والدي.. كان طوع بنانه، ربما لأنه عنيد شديد قاس، ربما لأنه كان يكمله.
أحببته كثيرا لبعض صفاته الرجولية العسكرية، عمل خيّاطا ثم في الزراعة في حقل العائلة. ثم استلم الحقل أخي غير الشقيق حسني وأصبح سامي ضابطا في الجهاد المقدس بناء على توجيهات الوالد ورغبته. وربما كان عضوا في تنظيم الإخوان المسلمين في أواسط سنوات الأربعين. أقول ربما لأنني لا أملك غير شذرات من معلومات عن ذلك.
سألت والدي الشيخ مرة وكنت في الرابعة من عمري: هل أستطيع أن أكون طبيبا في الجيش؟ قال: تستطيع إذا اجتهدت وتعلمت الطب. قلت: هل أستطيع أن أكون شيخا وطبيبا في الجيش؟ قال: تستطيع إذا درست علوم الدين والطب وفنون القتال...
في سن الرابعة كنت أريد أن أكون كل هذا. في ذلك العمر بدأت أبحث عن ذاتي.
علوم الدين لأنني أردت أن أكون مثل والدي والطب لأنني أردت أن أكون مثل الدكتور الياس السروجي الذي كان يشرف على مرض والدي على الرغم من أنه كان مختصاً بالأطفال... وأردت أن أكون عسكريا لأنني كنت معجبا بأخي سامي.
وسامي هذا كان يربيني على العنف والقسوة وقوة الإرادة والشكيمة.. بيد أن والدي الذي علمته السنون جهد في تربيتي على التسامح والحلم والسلم- خاصة السلم الأهلي. فهل أنا كأخي حسني مزيجٌ من كليهما؟ كان والدي رجلا دمثا حلو المعشر وكان أخي سامي رجلا مُرا كما يقولون.
حتى عام النكبة كان بيتنا يدعى "بيت الأمة". علمت ذلك ليس من والدي طبعا، إنما من أصدقائه، لكثرة زائريه الذين وعيْت عليهم. وكان هذا الوالد شديد الحرص على الناس وخصوصا الأطفال. مات والدي وأنا في الحادية عشرة من عمري ولا أعي حديثا جديا معه.
يُحكى عنه أنه في عرس ابنه البكر محمد في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، جاء أولاد الحارة كالعادة ليتفرّجوا وليأكلوا من طبيخ العرس وقد ضاق بهم ذرعا باقي أخوتي نتيجة للفوضى التي كانوا يتسببون بها... فما كان منه إلاّ أن "قرمز" وقال للأولاد: تعالوا يا بوي إركبوا! وكان هذا درسا لأولاده جميعا.. الكبار منهم والصغار.
وفي عام النكبة امتلأ بيتنا وبيت عمي عبد الحميد باللاجئين من حيفا وشفاعمرو وعيلوط. كان والدي يزن ستين كيلوغرامًا لكنه كان واسع الصدر... كنت أنا في تلك الأيام  في عداد اللاجئين في برج البراجنه بلبنان.. أنا ووالدتي وأخواتي غير الشقيقات وسامي راعينا، كذلك أخي الكبير محمد وعائلته وابن عمي دياب وزوجه خالدية وأخواته. مفارقة! أليس كذلك؟ أكثر من نصف عائلتي الصغيرة لاجئين غرباء وبيتنا وبيت عمي مليئان بمهجري الداخل.
عدنا من لبنان بعد حوالي سنة ونصف أنا وأمي وأخواتي فقط.. متسللين إلى أرض الوطن، لكن بدون ذلك الراعي، كنا مع راع جديد هو أخي غير الشقيق من طرف والدتي- عبد الرحمن. سبقنا العبد إلى الناصرة، حصل على الهوية الزرقاء لأنه لم يغادر البلاد... كانت هويات الذكور مع صورة لكن هويات الإناث بدونها لأسباب دينية.. حصل على هوية خالتي أنيسة رحمها الله بدون علم زوجها وعاد، فدخلت والدتي من الحاجز على هوية خالتي ودخلت معها بنات زوجها- أخواتي غير الشقيقات- على أساس أنهن بناتها.
ثم تم ترتيب موضوع الهويات الحمراء المؤقتة ثم الزرقاء الدائمة بواسطة زوج خالتي المرحوم سيف الدين الزعبي، نقرت له خالتي رأسه بهذا المضوع... ولو لم يتم ذلك لكنت وكنّا في عداد اللاجئين مرة أخرى. والله أعلم ماذا سوف يكون مصيري.
كنت كما هو واقع الحال "قريد العش" فخطيت بدلال كبير من والدي ووالدتي ومن بعض إخواني. أقول البعض لأنه بالنسبة للبعض الآخر لم أكن طفلا مرغوبا فيه. قيل أن أحد أخوتي لم يمسني ولم يحملني ولم يقبلني حتى صار عمري ثمانية أشهر.. فأنا من جيل أصغر أبنائه. كنت أحبو وأطارد قطعة من ندف القطن وكلما هفوت عليها كانت تطير حتى بلغت عند مدخل الغرفة الرئيسية- المربع- وإذا به يقف ويراقبني.. نظرت إلى الأعلى.. قلت له وكانت أول الكلمات التي ألفظها- "ألن حمادة!" أي أهلا يا محمد!… فطار عقله ورفعني وضمني واحتضنني.. وغمرني بالقبل الأخوية الصادقة. هكذا وعلى هذا النحو كانت المصالحة بيني وبين أخي الكبير. لقد جاء هذا الطفل ليحظى بالإهتمام ومن ثم بالقسم الأكبر من الميراث. لكن هذا البعض الآخر أيضا لم يكن ليجرؤ أمام والدي حال حياته! كانت أمي زوجته الثالثة، تزوجها وهو أرمل مضاعف وهي مطلقة. بالنسبة لهذا البعض الآخر كان مجرد وجودي هو المشكلة.
عندما ولدت (طاطت) في الحارة الشرقية.. الشيخ إبراهيم الشيخ خلّف ولد.. وكان عمر والدي سبعين عاما وعمر أمي خمسة وأربعين. الكل استغرب.. هكذا قال لي هذا أبو فايز علي القاسم عندما تلاقينا قبل أسابيع من كتابة هذه السطور بمناسبة عزاء سليم الهسهس، فأنا على علاقة طيبة مع نجله عفيف منذ الطفولة والكشاف الإسلامي.
قال لي أبو فايز شيئا آخر.. (ربما سيأتي دور قوله). دوره فيما بعد. لكن لماذا فيما بعد؟ ليكن الآن! قال: إن فلانا (وذكر الاسم لكنني أحجم عن ذكره نتيجة الحساسيات) ضحك على أبيك. قلت: لم يكن والدي بسيطا إلى هذا الحد حتى يضحك عليه أحد. قال: كان طيّبا ولا يضحك الشياطين إلا على الطيّبين. قلت: كيف؟ قال: سنة 1948 كانت الناصرة "محكومة" من قبل اللجنة القومية المسؤولة عن التموين وكان والدك رئيسا لها.. بدأت أمواج اللاجئين تتدفق على الناصرة... وحدث نقص في الطحين والبلد كانت برقبته.. سلّم والدك مبلغ ثلاثين ألف ليرة فلسطيني (الحيلة والفتيلة) لفلان وأوكله بثلاث شاحنات لجلب الطحين من ميناء عكا. قرب مفرق عكا نهريا وضع هذا المسدس برأس السائق وقال له: على اليمين... إلى الشمال... إلى رأس الناقورة وهرب بالمال.. بقوت أهالي الناصرة.... ثم أصبح من أغنياء الحرب.
علمت فيما بعد ومن أخي غير الشقيق عبد الرحمن الذي عمل في دائرة المؤن بين السنوات 48- 1949 أن عدد سكان الناصرة قفز إلى مائة وعشرين ألف نسمة وكادت تحدث مجاعة. لولا أن هذا العدد بدأ في النقصان عن طريق اللجوء للبلدان العربية وخاصة لبنان أو إلى قضاء الناصرة. عاد العدد الطبيعي أو قل قدرة استيعاب البلدة ويقارب ثلاثين ألفا تماما كمبلغ الثلاثين ألف ليرة التي سرقها هذا الفلان سامحه الله وأسكنه فسيح جنانه.
كان من اللاجئين من بقي بالناصرة ومنهم من غادر إلى خارج البلاد... وممن بقي بعد مجزرة عيلوط جيران لنا سكنوا دار عمي.. عمي الذي هاجرت عائلته إلى لبنان لكون ولده دياب من المناضلين. منظر عبثي درامي! ربما أيضا مأساوي! لا.. لست أدري ماذا أقول، صاحب الدار لاجئ وبداره يسكن لاجئون. دياب.. ذلك الشاب خرّيج دار المعلمين في العراق الذي كان يعمل في حينه مديرا لقسم المياه ببلدية الناصرة والذي باع خمس مائة دونم من أجود الأراضي الزراعية لكي يشتري سلاحا بهدف المقاومة... دياب الذي سلّح فرقة من عرب السبارجة يصبح بين عشيّة وضحاها لاجئا. أذكر أنني جلست في حضن أحدهم حول نقرة للقهوة السادة وما هي إلا ثوان حتى سمع دوي انفجارات متتالية.. ظن المسكين أن عدة طلقات فلتت من مسدسه وأنا أزعق، إتضح فيما بعد أن حفنة الفلّين ألتي كانت في جيبي قد إنفجرت وتسببت بحرق فخذي الأيمن. تنفس ذلك البدوي الصعداء أما أنا فلم أستطع التنفس من شدة الألم...
في تلك الفترة وبعد اللجوء أتيت بمسمار.. جلخته على الحائط. وضعته عليه عجينة وبعض الريش وثبته بخيط وحين جفّت و قست العجينة كنت أطلقه نحو الباب أو الحائط فيغرز. تلك كانت لعبة خاصة من اختراعاتي الحميمة وكان هذا الاختراع الطفولي عزيزا علي ومصدرا للافتخار. جاء زائر عند جيراننا الجدد، راقبني فاستحلى لعبتي هذه فخطفها وهرب إلى الزقاق المؤدي لدار عمي حميد حيث يسكن أقرباؤه، لحقته وأمسكت به من الخلف. قلت: هذه لعبتي.. هذا "منخازي". أسميته هكذا.. ربما من نخز الدّابة ينخزها نخزا... قال: لا بل لي. قلت: كيف؟ قال: هيك. كان ذلك أمام والدته وخالته ميّاسة، جارتنا الجديدة التي قتل زوجها في مجزرة عيلوط...
وما كان مني إلاّ أن أخرجت الموسى العربي الذي كان في جيبي، متذكرا قول أخي سامي: "لا تسفط حقك!" لا تتنازل عن حقك مهما كانت الظروف. لا تهادن المعتدي إذا كان الحق معك!
وطعنت ذلك الفتى ابن السادسة وإذ بمصارينه تندلق من بطنه. هربت عندما رأيت الدماء... وقامت دبّة الصوت.. وقد علمت فيما بعد.. أنّ أخي حسني والجيران أتوا وحملوه إلى عيادة الدكتور الياس.. أسعفه إسعافا أوليا ومن ثم أخذوه إلى المستشفى الإنجليزي لرتق الجرح.  قامت الدنيا ولم تقعد.. أما أنا فقد هربت إلى الجرينة القديمة وهي مكان لبيع الحبوب، وكانت شراكة بين أخي وابن عمي.. ونسيت الموضوع.  بعد ساعة من اللعب على أكوام السمسم والقمح والشعير وبعد تفتيش شامل في الأماكن التي كان من الممكن أن أتواجد  فيها... عثر على أخي عبد الرحمن... قال: "تعال يا مجرم. أين المطوى".. حملني ومد يده إلى جيبي اليمين فعثر عليه.. ورماه خلف سور راهبات الناصرة الخلفي، أذكر أنه خرجت بضعة حبات من الحبوب بيده مع المطوى.. أخذني عنوة، ولا أذكر سوى  أنني أكلت أول قتلة في حياتي من قبل والدي. كنت في السادسة.. مرّت ست سنوات على حياتي  ولم يمد والدي يده علي بعنف أو بقسوة. ومرّت ستون سنة ونيّف وما نسيت تلك العلقة.. ربطوني بالحبال وسجنوني تحت التخت. لا أدري كم من الوقت مر.. غفوت على الرغم من الجوع  ولم أصْحُ إلاّ على صوت الدكتور إلياس وهو يتشفع لي عند والدي!
لست أدري إذا كان ذلك في اليوم التالي أم الذي تلاه.. جاء أبو بسّام الزعبي، وكان شرطيّ التحقيق، إلى دارنا. لماذا لم يسجنوني في المسكوبية؟ هل أكتفوا بحبسي تحت السرير  في البيت؟ سألني الشرطي بعد أن طلب من أهلي أن نبقى لوحدنا: "لماذا طعنت ذلك الفتى الزائر من عيلوط؟".. سردت عليه كل ما حدت بالتفصيل الممل. ما زلت أذكر ابتسامته.. وكيف كان يخفى عني انفعاله المضحك.
أذكر أنه سألني في نهاية المطاف: "سبعة زائد سبعة؟"، فقلت معتدا بنفسي: "أربعتاش". قال: "سبعة في سبعة؟". قلت بعد تفكير عميق: 49.
قام... وسمعته يقول لوالدي: "الولد مش متخلف". لكنه دون السن القانوني وأغلق الملف. لم أفهم في حينه ما معنى هذا الكلام. كانت أول مرة أسمع فيها كلمتي ملف وتحقيق.
أقول لكم الحق إنّ هذه الحادثة علمتني الخوف من السكين. وعلى الرغم من ذلك بقيت أحمل المطوي حتى بلوغي الثامنة عشرة. لا أدري لماذا! ربما دفاعا عن النفس!!
بقي هذا الزائر من عيلوط في المستشفى عدة أيام.. لا أذكر إن كنت عدته أم لا.. لا بد أن يكون اليوم من جيلي ـ ابن 65 عاما. أتشوق أن أراه لكي أقول له فقط أنني آسف.. آسف لاستعمال العنف المبالغ فيه معه في تحصيل حقي منه حتى لو كان الحق معي. كان من الممكن أن أجرب الحوار أولاً. كان من الممكن أن أتصرف بشكل آخر. أن أشكوه لوالدته أو خالته ميّاسة… لكن هكذا كان فأخي سامي ربّاني على العنف وأبي ربّاني على الحوار.. في حينه غلب علي العنف.. أما الآن وقد بلغت من الرشد مبلغا وأنا في الخامسة والستين فقد صرت أومن بالحوار أكثر من إيماني بالعنف!
مع هذا كله ما زال ذلك الجانب العنيف في شخصي كطفل في الخامسة والستين.
قلت في نفسي: ما هي الجدوى من عملية التنقيب والبحث في الماضي والرجوع هكذا إلى الأصل؟… ولماذا هذا السرد ولم هذا الإسترجاع…؟ الهدف هو المستقبل وهل فيه عملية لترميم أم لتدمير الذات؟ وهل في هذه العملية قصدية إنبات المقاومة والدعوة إلى ترميم الذات عن طريق معرفتها وإعادة استثمارها؟ ربما؟! مقاومة الموت.. مقاومة النسيان والرجوع إلى التاريخ.. وهنا التاريخ الشفوي الخارجي والتاريخ الداخلي "الجوّاني"، لمقاومة الطمس والمحو وإعادة بناء الذات. وكثيرا ما يدمر الموت الأرشيف الخاص.. والتذكر عامل مهم في مثل هذا المقاومة. ومقاومة الموت بالحياة وديناميكية الفعل التذكري.. والأرشيف يقوي الذاكرة ويحفظها من الخارج "فلا أرشيف بدون خارج" أو برانية.. إذن فالأرشيف هو تذكار للمستقبل  ومسؤولية  الغد… "ولا توجد حمى أرشيف (التي هي الحاجة المحمومة إلى الأرشيف) بدون تهديد (من) دافع الموت هذا، دافع العدوان والتدمير" أو الجانب العنيف فيما هو خارجي "برّاني" وفيما هو داخلي "جوّاني".
"مشكلة الأرشيف تنشأ مع حمى الأرشيف، الحاجة إلى الأرشيف"... كما يقول جاك  دريدا في كتابه حمى الأرشيف (ترجمة عدنان حسن، إصدار دار الحوار للنشر والتوزيع- طبعة أولى سورية اللاذقية 2003 ص 149) ثم يضيف أكثر في هذا المعنى- أن "امتلاك رغبة قهرية تكرارية، وحنبنبة (نوستالجية) في الإرشيف، رغبة، لا تكبت في، حنين إلى المكان homesickness العودة إلى الأصل، حنين مرضي إلى الوطن الأكثر عراقة للبدء المطلق" (ص 149) المكان الذي ولدت فيه.. بغرفة زينب المرأة الأولى ثم غرفة الشامية ثم غرفة والدتي ثم غرفتي!
هذا هو الأرشيف النفسي الخاص.. مسرح التقنيات والحفريات الآثارية الخاص! ومن هنا تتكلم الحجارة... وعوارض خشب السقف وخزانة زينب والشامية ووالدتي والكونصول والسرير القديم، ومن هنا حيث يقدم الأصل ذاته وبشكل حي.. فكل هذه الأشياء الحسيّة ما زالت تتكلم! تترمم بفعل ذاتها وترمم بفعل فاعل هو الـ أنا .. المكان البدئي الذي آواني.. المبدأ الأرخيوني والأبوي البطرياركي والأمومي في الوقت ذاته.. لأن زينب هي أول من رمّمه! نموذجي الأمومي والتي عادت كشبح، تماما مثلما عادت أمي كشبح، تتصارعان في أعماقي أو أكثر تتمشيان تتهاديان في ذلك الدهليز المؤدي إلى أعماقي... تصارع الأصل مع الفرع لتلك النزعات الأمومية النموذجية البدئية التي تعتمر في داخلي. أفهم الآن ما كان يعنيه أحمد فارس الشدياق عندما تمنى أن يولد أنثى.. امرأة.. تعطى الدفء والحنان ودفق الحياة. كانت كتابته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. عندما قرأت كتابة "الساق على الساق فيما هو الفارياق" قبل عشرة أعوام استغربت تمنياته وكلماته. لقد كان رجلا ولا الرجال ويتمنى أن يولد إمرأة؟!
ربما هو في تلك الفترة حاول الغوص  في أعماقه.. وكثيرا ما يفعل الكتّاب ذلك. لكن قلّة هم الذين تجد لديهم مثل هذه الجرأة!
هذه الجرأة تلزم في عملية البحث والتنقيب في أعماق الذات، خاصة التنقيب وعملية البحث عن الذات في كتابة سيرة ذاتية فكرية، التنقيب في الأرشيف المترسب في القاع أثناء عملية الحفر الاركيولوجي النفسي. إبراهيم رب العائلة البطريارك الأول عندي... لم يتمظهر بالمعنى الفرويدي الكلاسيكي لظاهرة القمع والعنف والكبت.. وعملية الإستيلاء على رحم وثدي الأم.. والمنافسة عليهما... بإختصار لم أعانِ من عقدة أوديب.. عقدة قتل الأب والزواج من الأم .. لأنني لم أشعر في يوم من الأيام بأي تهديد لفقدانها.. هي ووالدي كانا ملكي طوال الوقت... لم أخف من ذلك الفقدان لأنني وحتى سن متأخرة كنت أستحوذ عليها.. قبل وبعد موت أبي كنت أنام معها في السرير ذاته حتى سن العاشرة تقريبا.. لم أتنافس أنا وأبي عليها، والدي أصبح في الثمانين.. لم أغر منه، بل على العكس كنت أتعاون معها على خدمته بمحبة ورغبة ناتجة عن وقائمة على المحبة والإحترام والهيبة لا على الرهبة!
إحدى نظريات فرويد سقطت عندي! لا مشاكل عندي مع طيف أو شبح والدي! إنما أعيش معه بإنسجام... وربما هنا تفقد هذه النظرية عالميتها. أقول ربما كما قال نيتشه الذي يميز مفكري المستقبل بجرأتهم على قول ربما!
لنعد الآن إلى عملية الرجوع إلى أرشيفي الخاص، أرخيوني.
كلمة أرخي تعني؛ حيث تبدأ الأشياء وتأمر الآلهة والبشر.. وكلمة أرخيون في اللغة اليونانية تعني البيت والمسكن والعنوان.. سكن كبار القضاة والحكام الآمرون... الآرخون/ات هم الذين يسنّون القوانين وهم هم حراس الوثائق التي مرّت من الخصوصي إلى العام ومن السرّي إلى العلني.. مع مرور الزمن وأثناء عملية الإستيداع والتصنيف والترتيب والحفظ والصون.
الكلمة الإنجليزية تفيد معنى الأمر ومعنى النظام.. order، والنظام هو الناموس؛ القانون وفرض الإحترام وإنقاذ الناموس؛ أما الأمر فهو السلطة والعنف وفرض الهيبة. وكلا النظام والأمر من مقومات الدولة. وإن دولتي هنا هي سلطة زينب الأصل ووالدتي ابنة أخيها الفرع والجانب الأمومي وسلطة والدي البطرياركية وسلطة أخوي سامي وحسني فيما بعد وهي من الجانب الذكوري.
هاتان السلطتان ما زالتا تتنازعاني حتى الآن وقد بلغت من العمر عتيا... تنازعتني هاتان القوتان... نعم، لكن بانسجام وتكامل! فأين فرويد من هكذا صراع متكامل في  كليته؟!

وليد الفاهوم
الجمعة 1/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع