ثقافة الإقصاء.. جذورها ووسائل معالجتها



المتابع للمشهد الثقافي العربي بشموليته يلاحظ حالة من التدابير السلطوية التي تكاد تفسد أي حراك أو جهد وطني وقومي نحو الإصلاح والتغيير، إذ يلاحظ أن هناك استئثارا ـ لا فرق بين الموالاة والمعارضة ـ وهيمنة واستحواذا.. وهناك شعارات وخطابات سياسية وأيديولوجية متباينة ولكنها إقصائية في معظمها. ويلاحظ أن ثقافة الإقصاء تتمظهر في كثير من الأشكال والتجليات، إذ طالت قوى سياسية وشرائح اجتماعية واسعة، كما طالت الأقليات والمرأة، وطالت الفكر والتاريخ والجغرافيا. فعلى الصعيد السياسي هناك من ينظر إلى المعارضة بوصفها المرادف الموضوعي للخيانة، مما يحيل هذه المعارضة ـ بمجاميعها وأشخاصها ـ إلى مجموعة من المواطنين من الدرجة العاشرة، فكثيرة هي الأنظمة العربية التي تحرم مواطنيها من حق المشاركة في إدارة شؤون وطنهم.
وكثيرة هي الأنظمة والأحزاب التي تصادر الحريات العامة وتجرم حق النقد، وتحتكر الحقيقة، فلا رأي إلا ما تراه. فهناك حالة سياسية فصائلية، وهناك محصصات طائفية وإثنية، كل منها يقصي الآخر المختلف حتى من داخله، هناك إقصاء إسلاموي للعلماني أو العكس، وهناك علاقة إقصائية بين الإسلاميين واليساريين. إضافة إلى أن معظم أنظمة الحكم القائمة اليوم غير جادة في إبرام شراكة سياسية أو إقامة عقد اجتماعي فيما بين القوى الوطنية المتعددة، فهي تمارس إقصاء سياسيا ضد قوى سياسية معينة، مما زجّ بالمجتمعات العربية في أتون فوضى، وتصفيات، وحالة مخيفة من غياب الأمن والأمان، فتلاشى الحوار وشاع خطاب التكفير والتخوين.
وإذا أردنا أن نذهب بعيدا، فهناك على الصعيد الدولي دول تقصي شعوبا بأكملها، وتتجلى هذه السياسة الإقصائية بالهجمة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، تحت عنوان: (الحرب على الإرهاب) انطلاقا من غزوها لأفغانستان والعراق، في حين أن حقيقة أهدافها تكمن في الهيمنة على ثروات الأمم وفرض ثقافة الخوف واستئصال الآخر، أو أن يذوب هذا الآخر في تيار العولمة الأمريكية. من جانب آخر فإن هذه الإقصائية الأمريكية إنما تهدف إلى دفع العرب والمسلمين إلى الإقرار والاعتراف بالآخر الإسرائيلي أو الأمريكي بدون شروط، فضلا عن فرض شروط إسرائيل الأمنية وتكريس (يهودية الدولة) التي تلغي الوجود العربي الفلسطيني وتفرض التوطين وتسقط حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم.
يتم كل ذلك عبر استخدام العصا الأمريكية الغليظة وإقصاء القانون الدولي، كما يتجلى العبث الأمريكي في الساحة الداخلية للدول ذات السيادة فيما تقوم به من إقصاءات ضد قوى سياسية بعينها، يكون ضحيتها اليساريون والإسلاميون. ولعل مشروع مؤسسة راند الأمريكية يصب في هذ الاتجاه العبثي. ناهيك بهجمة تصدير الديمقراطية تحت عنوان (محاربة التسلط والاستبداد).
وعليه فإننا أمام ظاهرة تتعدد وسائلها وأسلحتها على مختلف المستويات. ولعل أحدث آليات الإقصاء ما بدأ يعرف باصطلاح (الاجتثاث)، إضافة إلى القمع والاعتقال والاختطاف والانتهاكات المعممة لحقوق الإنسان. ومن آليات الإقصاء أيضا الاستبداد والفساد الاجتماعي والاقتصادي، وبضمن ذلك ما يسمى بالإقصاء خارج حقوق المواطنة، الذي يتمثل بسحب الجنسية بمقتضى قرارات عليا، وتكمن الإشكالية هنا أن جميع الممارسات الإقصائية كشفت الأقنعة عن زيف الادعاءات بالديمقراطية والإصلاح والتغيير، والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع.
فحين يتركز الهم في شطب الرأي الآخر من المعادلة الوطنية، ويتسلط أصحاب القوة ـ بشقيها الثروة والسلطة ـ على الأفراد دون أن يكون هناك تصد أو رد، عندذاك يصبح التسلط والإقصاء الخارجي المفروض علينا أمرا مفهوما. وحين يأتي الرد على هذا الإقصاء ضعيفا أو يكاد يكون معدوما عندئذ نتذكر أن الجميع منشغلون في مسلسل إقصائي يأبى أن يتوقف، حتى باتت توصف بـ (الظاهرة القميئة)، في حين وصفها البعض بـ (الظاهرة البالغة السلبية التي تضر بحياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية)، ووصفها آخرون بأنها (عملية سياسية وثقافية بغيضة). كيف لا تكون كذلك ومفاعيلها في إحباط الجهود والكفاءات الوطنية واضحة في ما جرته على أمتنا من ويلات وإشكالات، وما تسببت به من قهر وتهميش، وما أدت إليه من هشاشة بنيتنا الثقافية وبنائنا الاجتماعي، إذ يضعف التكافل والتضامن، وتبدد الطاقات، وتغيب روح المبادرة والإبداع، وتتلاشى ثقافة التنوع في فضاء الوطن الواحد. وبالتالي لا تكتفي ثقافة الإقصاء بمثلبة تغييب العدالة فحسب، بل تؤدي إلى فقدان الثقة لدى المقهورين والمهمشين بمفهوم المواطنة ومعناها وأهميتها.
وبالعودة إلى دراسة الظاهرة ومعالجتها، بعد تشخيص الأسباب، فإننا أمام حالة مركبة تتعدد أسبابها وتتداخل وتتفاعل فيما بينها لإعادة تخلُّقها على نحو تصاعدي. ولعل أبرز أسباب الإقصائية وتداعياتها تلك الرغبة الجامحة لفئة أو شريحة ما للاستئثار بالسلطة، التي تؤدي إلى رفض الآخر وإلغائه وادعاء العصمة والكمال والبراءة والنظافة، وربما يلعب (التحجر الأيديولوجي) دورا في انتشار ظاهرة الإقصاء وتسيدها، إذ يؤدي احتكار الحقيقة والصواب وادعائهما، إلى الإقصاء والإلغاء بل حتى التكفير، ناهيك بتراجع دور مؤسسات المجتمع المدني تربويا وإعلاميا وثقافيا، وتعرض هذه المؤسسات نفسها لآليات الإقصاء والإلغاء.
وهنا يأتي السؤال التقليدي: ما العمل إذا؟! لقد ثبت عبر الوجه الشرعي أنه ليس هناك أي مصلحة في تغيب وتهميش دور أي فئة أو شريحة أو حزب أو تيار، وتجاهل رأيهم وإقصائهم من أي نشاط، سواء أكان ثقافيا أم اجتماعيا أم اقتصاديا أم سياسيا، وعليه فإن مصلحة الوطن والأمة تقتضي أن ينطلق التعاطي مع هذه الظاهرة من مرتكز احترام فسيفساء المجتمع وتنوعه ـ على قاعدة وحدته وتماسكه الوطني والقومي ـ الفكري والإثني والطائفي والمذهبي والجهوي، وفقا لشعار الوطن للجميع والمواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، ثم الاعتراف بحق الاختلاف، بل وحق الخطأ، ومن ثم نبذ سياسة الإقصاء، والبحث عن مساحة حقيقية للمشاركة في رسم القرار الوطني وصناعته، وحرية التعبير بما لا يسمح أو يتسبب في دفع الآخر إلى اللجوء إلى الخارج أو الاستقواء به، أو تبني خيارات (العنف). ولا بد من أن تكون المراكز والمنتديات الثقافية وكذلك الجامعات ومؤسسات التعليم والإعلام منصات انطلاق للتنوير والحرية والعقلانية وممارسة الديمقراطية. ولا بد لهذه المؤسسات من أن تكون حاضنة للإصلاح والتغيير وصناعته. أما على صعيد الآخر الخارجي فلا مناص من اعتماد سياسة التجاور والتعايش وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، أو جواز احتلال أراضي الغير بالقوة، أو الإلحاق والضم التعسفي، بل احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها فوق تراب أوطانها بنفسها ولنفسها.
خلاصة الأمر علينا أن ننهض نحن بمهمات الإصلاح والتغيير الذي نريد ـ بأيدينا وبإرادتنا ووفق مصلحتنا الوطنية والقومية ـ فخيار الإصلاح والتغيير المتدرج هو خيار الأمة الأكثر إيجابية وفائدة. وينبغي أن ينطلق اليوم وليس الغد، فالوطن لنا جميعا ولا عصمة لمواطن دون آخر، فالإقصائية ليست قدرا ولكنها ظاهرة قابلة للإقصاء.

محمد صوان
السبت 2/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع