فائق وَرََّاد؛ وجهٌ من ذلـك الزَّمَن الفلسطيني



"طـوى الجزيرة حتى جاءني خـَبـَرٌ
فـزعتُ منه بآمالي إلى الـــــكذب..."
أبو الطيب المتنبي

غـيـَّبَ الموت يوم الثلاثاء الماضي الرفيق فائق وراد، المناضل الشيوعي الفلسطيني الفذ والقائد الوطني الكبير عن عـمر قـارب الثمانين عاما قضاها في خدمة شعبه وفي النضال الدؤوب من اجل تحرر فلسطين واستقلالها ورفعتها...
في منتصف الأربعـينيات من القرن الماضي انضـم فـائق وراد (أبو مـحـمـد) الى صفوف "عـصبة التحرر الوطني" في فلسطين، حاملا لواء النضال ضد الاستعمار البريطاني والمشروع الصهيوني... وكان من مؤسسي "الحزب الشيوعي الأردني" عام 1951، وأمضى سنوات طويلة عضوا في لجنته المركزية ومكتبه السياسي...
وفي الانتخابات النيابية التي جرت في العام 1957 انتخب الرفيق وراد عضوا في البرلمان الأردني عن منطقة رام الله بالاضـافة الى عـدد من رموز الحركة الوطنية الفلسطينية والأردنية مثل الدكتور يعقوب زيادين، وكمال ناصر وعبد الله الريماوي وغيرهم... وقد اعتقل أبو مـحـمـد غير مرة، وحكم عليه بالسجن لمدة 19 عاما أمضى منها ثمانية أعوام في سجن الجفور الصحراوي الرهيب... وكان فـائق وراد من اوائل  المناضلين الفلسطينيين الذين أبـعـدتهم إسرائيل بعد حرب حزيران عـام 1967...
وجهٌ صبوح على الرغم من الشعر الأشيب الذي تناثر على محياه مما زاده وقارا ومهابة؛ إلا انه ما زال محتفظا بحيوية تصيبك بالدهشة... وهو اسم لعـله لا يثير لدى القراء أي استفزاز للبحث والتنقيب عما يختزن بين أضلعه من ماض وما اجترحه من مآثر بطولية.
وهو لكل من عرفه عن قرب مصدر الهام حيّ لتاريخ النضال الفلسطيني، وهو في قسمات وجهه وتقاطيع جبينه الصلد الذي حفرت فيه السنوات مجرى يمنحك إحساسا بالدفء، ويثير فيك مشاعر لا تملك إزاءها إلا أن تمني النفس في أن يعـيد التاريخ نفسه لترقب بأم عينيك حركة الأحداث ولتكون شاهدا لهؤلاء الرجال.
لقد احتزم أبو محمد ورفاقه بالعزيمة التي لا تلين، وانطلق الإنسان في داخله، الإنسان الذي يرفض أن يظل مكبلا بقيود الاحتلال (سواء كان بريطانيا أو صهيونيا)، الإنسان الذي يرفض أن يكون محني الرأس ("ما بشيل الرأس إلا اللي ركبه...!!").
كان أبو مـحـمـد يمقت كثيرا الحديث عن نفسه، ويؤلمه أيما ألم الاستطراد في التنقيب عن مآثره وما صنعه لهذا الجيل الذي ترعرع في كنف الانتفـاضـة ولم يستطع أن يلملم شظايا الذكريات ويحفظها لتكون خير معين ورفدا خصبا لمسيرة شعبنا ضد التغييب والاغتراب.
لم يكن من السهل على من لم يخبر الأحداث ولم يعاصر جيل فـؤاد نـصـار وعـربي عـواد وفـائق وراد أن يخترق خزانة الذكريات. كان فـائق وراد واحدا من ذلك الجيل، شخصية توارت اختارت لها موقع الظل، كان مثله الأعلى حماية ذاته من الكلمات "المفخخة" التي تحيله إلى طاووس متغطرس ينفش ريشه فخرا أو اعتزازا. وكان مصدر قلقه وغيظه أن يبجل دوره النضالي...
كان وجها من ذلك الزمن الفلسطيني، واحدا من "الحرس القديم"، ذلك الرعيل الذي ظل الموت معلقا على كتفيه، محتزما بالموت، متوسدا تراب الوطن..
كان آخر حديث لي معه قبل شهرين. هاتفته يومئذ لأطمئن على صحته التي تدهورت مؤخرا، وجاءني صوته من الطرف الآخر.. هادئا دافئا كعهدي به.
سألته عن أحواله فقال بأنه "على ما يرام"، وتشعب الحديث وتفرع، ولم أرغب في الإطالة أكثر.. وعندما ودّعته، شكرني بأسلوبه اللبق على اتصالي به، وأنهينا الحديث الهاتفي على أمل مـعـاودة الاتـصـال قريبـا....‏
كان يستقبلني بوجهه الباش، وابتسامته العـذبة، وقبلاته الودّية.. وكنت أشتم فيه رائحة الزعـتر والميرمية، وأريج الريف الفلسطيني في قريـته بيـتيـن، وشذى الطيبة والوداعة اللتين تضمخان الفلاحين الفلسطينيين.
كان صديقا صادقا صـدوقـا، وصاحبا حقيقيا، وزميلا مخلصا، ورفيقـا صلبـا، وكنت أتحرج من حرارة استقباله، وأخجل من لهفة لقائه وعذوبة سلامه... ولم أكن أعرف كيف أجاريه بمثلها، أو أبادله بأحسن منها!!
وعلى الرغم من توجّهه الفكري الماركسي الذي لا يخـفى على أحد، إلا أنه كان متمسكا بالقول المتوارث أن "الخلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية".
ومَنْ يعـرف أبا مـحـمـد يدرك أنه كان يتحاشى الخوض في أحاديث خلافية... كان يبحث عن نقاط لقاء بينه وبين الآخرين، ويفتش عن تقاطعات إيجابية تجمعه وإياهم...
لم يكن يتعامل معـك كخصم، بل كان يتعامل كإنسان مفروض عليه احترامك، كصديق ملزَم بأن يتفـقـد أحوالك، و"الأهـم من هـذا وذاك" كـ"ابن بلد". كان يقول لي دائمـا بلهجتـه المحببـة: "إسمع لـمـَّا أكـُل لك... إحنا فلسطينية مـُلزمين في بـَعـَظ... بخاطرك ولا غـصـِب عنـَّـك؛ أنا مـُلزم فيك، وإنتِ مـُلزَم فييّ... ولازم نـِبـكا مع بَعـَظ....".
ما سمعـته يوما يُسـَفـِّـه رأيا لصـديق أو ينال من وجهة نظر لم يـقـتـنـع بصوابها... كان يتحدث عن القضايا المشتركة التي تجذب اهتمام الجميع... عن "الهـَمّ الفلسطيني"، عن الإبداع، عن اللغة، عن المشهد الثقافي، عن الشؤون الخاصة.. وكان لا يتوانى عن مدّ يـد المساعدة، وكان في الوقت نفسه يبدي رأيه بصراحة إزاء ما أقدمه من اقتراحـات،  ينتقـد بإيجابية، ويثني بإيجابية.‏
ذلك الفلسطيني الهائل، بانتمائه، كان متواضعا جـدا. اجتذب المثقفين والكتاب والمفكرين، وكان مؤمنا بتفاعل الفكر الإنساني، لصالح الإنسان في مواجهة العنصرية والاحتلال، وسيطرة القوى الكبرى الغاشمة على مقدرات الشعوب المناضلة من اجل الحرية والاستقلال.
مات أحد المناضلين الفلسطينيين المثابرين...
ذهب الرجل على إيقاع الأيام المطفأة، عبر أنفاق السبات والذكرى...
لكن فلسطين، ستبقى في انتظاره، في دُغشة الصباحات الشاحبة، وفي ليالي الوجد، كما في مواسم وأعياد عاشقيها.
وداعــا... أبا مـحـمـد،
سيبقى مكانك عابقا بأريج المحبة والوفاء!!‏
أيها الشيخ الفلسطيني حتى النخاع،
لك الغـار والنـدى...
فالأشجار تموت واقـفـة!

* باحث وأكاديمي فلسطيني مقيم في السويد

الدكتور عبد القادر حسين ياسين
الثلاثاء 5/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع