الأصولية تهدد الإنسانية



إن مصطلح الأصولية لا يشير إلى التفسير الحرفي للنصوص الدينية فحسب، بل في فرض المبادئ التي يرغب فيها الأصوليون على المجتمع والدولة، وبعضها على العالم كله، والطلب من الجميع الامتثال لقواعدهم، وبذلك فإنها ظاهرة عالمية غير مرتبطة بالإسلام وحده.
فالأصولية اليهودية والهندوسية والكاثوليكية والبروتستانتية، وغيرها مسميات أصولية دينية صعدت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كي تملأ الفراغ الذي أحدثه على النطاق العالمي.
وأمريكا من أكثر البلدان الأصولية في العالم. وإن إحدى الكتل الانتخابية الناشطة هي في الحقيقة أصولية متطرفة ولديها تأثير كبير في الإدارة، ينبثق إما في المصلحة البحتة أو عن الإيمان، إنها وراء وصول بوش إلى البيت الأبيض.
ومن ناحية أخرى فإن الأصولية هي رد فعل طبيعي لقوى الاضطراب في العالم، فقد نتجت الأصولية الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي من جهة، وتحول أمريكا إلى مخفر عالمي (قطب وحيد)، بسبب اختلاف معادلات الواقع العالمي.
عندما حاولت الإدارة الأمريكية فرض نموذجها الأحادي في العالم، من خلال القوة العسكرية التي تمتلكها، جاءت الأصولية الإسلامية رد فعل طبيعي على هذه السياسات، فعلى مدى سنوات طويلة كانت هناك قومية علمانية على مستوى العالمين العربي والإسلامي. لقد كان جمال عبد الناصر قوميا علمانيا، وللعراق وسوريا كان تراث طويل في القومية العلمانية، صاحب ذلك جهود دمقرطة، والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تقدم الدليل على ذلك.
كان لدى إيران برنامج قومي علماني قبل نصف قرن مضى، ولكن النهج القومي العلماني فشل لأسباب داخلية وخارجية، فترك فراغا كبيرا إلى حد أنه مليء بالأصولية الإسلامية.
إن لقاء المصالح بين الإدارة الأمريكية والأصولية، أدى إلى احتلال أفغانستان والعراق. فالإدارة تريد السيطرة على العالم، وكان النفط هو المحرك الأساسي لذلك، والأصولية الإسلامية تريد طرح نفسها وبرنامجها، لذا رغبت كل واحدة في أفعال الأخرى، وكانت أحداث 11 أيلول العنوان المشترك بينهما، ثم أعلن بوش بعد ذلك التاريخ الحرب على الإرهاب، وقال جملته الشهيرة (من ليس معنا فهو ضدنا)، وكذلك أعلن ابن لادن أنه يدافع عن الأمة الإسلامية، ناصبا نفسه زعيما لها وقسّم هو الآخر العالم إلى فسطاطين.
منذ سنوات خمس دخلت (البوشلادنية) مرحلة التنفيذ، فدخلت الإنسانية فيما هو لا إنساني، الكرة الأرضية تسحق ماديا ومعنويا، وتفشى ارتفاع الأسعار الجنوني على النطاق العالمي، وتحول إلى وحش كاسر كاد يغرق البشرية، وانفجر الجوع في كل مكان، فسقطت القيم الإنسانية وأصبحت الأخلاق شيئا من التاريخ، لأن دولة بحجم أمريكا تبرر لنفسها حقوقا استثنائية، وكأنها تعيش منفردة على هذا الكوكب. ومن جهة أخرى نلاحظ تعصبا متفجرا ينتشر في المجتمعات كافة، وإن كان يتجلى بشكل أوضح في الشعوب الأكثر تخلفا، ويقدم من خلال ظلاميته تبريرا آخر للإدارة الأمريكية.
إن تبريرات الإدارة الأمريكية، وتبريرات الأصولية الإسلامية، شكلتا دائرة مغلقة وخبيثة سحقت القيم الإنسانية بين الشمال الغني والجنوب الفقير، أو ما بين المجتمعات الغربية والشرقية، بحيث تحول كل إنسان عربي أو مسلم بقدرة قادر إلى إنسان مشبوه في المطارات والشوارع والنوادي بالبلدان الأوربية والغربية، وتحول كل إنسان غربي (بمنظور الشرقي) إلى إنسان قاتل وكافر.
إن الدمار الذي أحدثته (البوشلادنية) على النطاق العالمي، أدى إلى تشكيل أقواس أخرى عديدة، مختلفة ومتناقضة مع دائرة (بوش، ابن لادن). وكلنا أمل بأنها ستشكل دائرة جديدة تستطيع إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ففرنسا ساركوزي بدأت تلعب دورا أساسيا على النطاق العربي والأوربي، والعملاق الصيني استيقظ من سباته، كما أن الدب الروسي يريد الدخول في الساحة الدولية وله كل الإمكانية، كذلك تفعل جمهورية الهند.
إن الإمكانية الموضوعية والذاتية متاحة لهذه الدول كي تقوم بتشكيل قطب جديد يجابه اللاإنسانية، لأن اللاإنسانية تحارب بالإنسانية.
لقد أثبت التاريخ أن كل دولة تصل إلى مرحلة الإمبراطورية، تحاول نسخ العالم طبقا للنموذج الذي يخدمها كي تتمكن من السيطرة والاستمرار. هكذا فعلت الإمبراطورية الآشورية والرومانية والإسلامية والعثمانية والإنكليزية..إلخ. والآن تحاول الإمبراطورية الأمريكية في هذه المرحلة (مرحلة السيطرة على العالم) أن تفعل الشيء ذاته، فنراها تغزو وتهاجم كما يحلو لها، وبالتالي فإن أي هدف محتمل سيسعى إلى أن يطور رادعا أو حائلا (إيران كمثال) لأن أحدا لا يستطيع مواجهة أمريكا في الميدان، لأن الإنفاق العسكري الأمريكي يوازي تقريبا ما تنفقه جميع دول العالم الأخرى مجتمعة، وترسانة الأسلحة الأمريكية تعد الأكثر تطورا من الناحية التكنولوجية، ولذا أخذت أغلب الدول المهددة أمريكيا، تبحث عن رادع ذي شكل آخر. وليس هناك سوى شكلين: الأول أسلحة نووية، والثاني: الإرهاب، لذا أمريكا تحث في الواقع الأعداء المحتملين أن يطورا نظاما إرهابيا وأسلحة نووية.
وأخيرا يمكن القول (بالعودة إلى الدول الإمبراطورية) إنها تحمل معها في مرحلة السيطرة على العالم بذور انتهائها من الوجود كإمبراطورية. هل بدأ العد التنازلي للإمبراطورية الأمريكية؟
إن الحروب والحرائق والدماء والدموع والجوع والأسعار الخيالية، كفيلة بإنهاء الدور الإمبراطوري لأمريكا وستنضم إلى شقيقاتها السابقات.

نمرود سليمان
الخميس 7/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع