عاشـق مـن فلسـطين... يترجـل



* ان تراب فلسطين سيضم بين حباته جسد الشاعر الذي سيبقى خالداً مثل نشيدنا الوطني ومثل زهر اللوز الفلسطيني والفراشة الفلسطينية *

ترجل فارس الشعر الفلسطيني، رجل المهمات الصعبة في الشعر العربي والعالمي، ترك الحصان وحيداً، واصبحت عصافيرنا بلا اجنحة! كانت صدمة قوية لكل محبيه، وبخاصة ان رحيله جاء في مساء ذات اليوم الذي نقلت فيه الانباء نجاح عمليته الجراحية في القلب الذي اضناه عشق فلسطين، المتيم ببرتقالها وزيتونها وورودها، الظامئ دوماً لمياهها وبحرها وشاطئها المتوسطي، المتعب دوماً بما يحمله من احلام شعبها، المتجسد دوما في قضيتها ومعاناة اهلها، المتماهي مع سمائها وطيورها وأحاسيسها.
اذكر تماما في نهاية الستينيات وفي سجون الارض المحتلة، كيف كانت قصائد درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، زاداً لنا في غرف الاعتقال، كنا نحفظها عن ظهر قلب، وكانت بأصالتها تساهم في رفع معنوياتنا ومجابهة السجانين.
كانت تلك المرحلة هي بداية تعرّف الفلسطينيين على شعراء الأرض المحتلة، بعد ان كان الشهيد غسان كنفاني قد قدمهم الى شعبه وابناء امته العربية واصبحوا يوصفون بـ(شعراء المقاومة). كان ذلك في موسكو في عام ،١٩٧٣ وبعد ابعادي ومباشرتي للدراسة في عاصمة ام الدنيا، وفي جامعة الصداقة، حيث اجتمع الشعراء الثلاثة معاً، وتناوبوا على إلقاء الشعر مدة ساعتين، يومها قرأ درويش بإلحاح من الطلبة قصيدته المشهورة: عاشق من فلسطين. ستظل تلك الأمسية في ذاكرتي ما حييت، وللاسف فقد ضاع مني شريط تسجيل الأمسية، وحتى اللحظة ما زلت أتأسف على ضياعه.
ليس من السهولة بمكان اختصار محمود درويش في مقالة صحافية، وبخاصة امام هذا الكم الهائل من المقالات والتعليقات الصحافية وبرامج الفضائيات، والتي اعتقد بمصداقيتها الكبيرة وحزنها على الراحل، فدرويش تجاوز حدود الاقليمية والقومية الى النطاق العالمي، وهو صاحب موسوعة المغناة الفلسطينية من ألفها الى يائها، قيمة محمود درويش انه المعبّر عن كل واحد منا بلسان جميل وبكلام اجمل، لذا سيكون من الصعوبة بمكان اختصار تجربة درويش الشعرية في مقالة صحافية، وحب هذا الشاعر هو قاسم مشترك بين كل الفلسطينيين والعرب مهما اختلفت انتماءاتهم السياسية، باختصار ان شعر محمود درويش هو تأريخ للمراحل الفلسطينية بكلام شعري، ففي البداية كان التركيز على الهوية الوطنية وعلى الفلسطينية/ فلسطينية العينين والوشم/ فلسطينية الاسم/ فلسطينية الاحلام والهم/ فلسطينية المنديل والقدمين والجسم/ فلسطينية الكلمات والصمت/ فلسطينية الصوت/ فلسطينية الميلاد والموت/ سجل أنا عربي... وغيرها.
وفي مراحل الثورة المختلفة، كان لمحمود درويش قصائد مختلفة متماهية مع تلك المراحل، فحين خفتت المقاومة كانت قصيدة درويش: عندما لا يتحرك الاحياء يتحرك الاموات، وفي حصار بيروت كانت قصيدة مديح الظل العالي، ومع بدء الانقسام الفلسطيني، جاءت قصيدة، أنت منذ الآن غيرك... الخ، الخ.
محمود درويش استلهم الأم والحبيبة، والشهيد واقاربه، والزوجة والابناء، والفدائي في قصائده، وهو الذي اضفى لمسات إنسانية كبيرة على النضال الفلسطيني، وساهم ذلك في انتشار القضية والحقوق على النطاق العالمي. محمود درويش مسكون بالهم الفلسطيني منذ بداياته حتى مرحلته الاخيرة. محمود درويش هو الذي يتنبأ بنهاية الصراع، وهو الذي استعرض في قصائده كل الجوانب الاخرى الانسانية التي تلازم النضال الفلسطيني، فالفلسطيني ليس مقاتلاً ومكافحاً فحسب، بل هو الذي يحب ويعشق ويسمع الموسيقى ايضا، وهو الذي يحن الى خبز أمه وقهوة أمه ولمسة أمه.
محمود درويش هو الذي قال عن رائحة البن بأنها تشكل الجغرافيا الفلسطينية/ رائحة البن جغرافيا/ فالقرى الفلسطينية في الصباحات الباكرة تعبق برائحة البن اثناء غلي القهوة التي يشربها الآباء الفلاحون قبل ذهابهم الى العمل.
محمود درويش اصبح جزءا لا يتجزأ من التضاريس الفلسطينية، وما يعز علينا انه لن يكتب قصيدة النصر القادم، لكن عزاءنا الكبير ان ام احمد (والدة الشاعر) لن تخجل من دموعها على رحيل فلذة كبدها، وانها ستغطي عظام محمود بكل ازاهير فلسطين ورياحين فلسطين بعد تعميدها بأنفاسها، وان تراب فلسطين سيضم بين حباته جسد الشاعر الذي سيبقى خالداً مثل نشيدنا الوطني ومثل زهر اللوز الفلسطيني والفراشة الفلسطينية.

 

(*) كاتب فلسطيني
عن "السفير"



فايز رشيد
الخميس 14/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع