حين يموت الشاعر



حين يموت الشاعر تحزن القبيلة، فمن سيطلق حكاياتها من الرتابة إلى ميادين الحماسة؟ من سينفِّض الغبار عن أمجادها؟ وبغيابه، كيف سيتعرف التاريخ على ملامح نسائها ومباهج رجالها؟
حين يموت الشاعر تفجع القبيلة، فبدونه ستصبح بطولاتها رمادًا مع تقادم الأيام، أما قصص العشق فستغدو غباراً تائهاً في قسوة المجال.. ستنزوي ليلى العامرية في خيمتها، وقيس، العاشق الملوع، سيصبح ثلاثة أحرف متوحدة في أبجديتنا الحزينة..  
حين يموت الشاعر تضطرب القبيلة، تحزن على الشاعر وتحزن على نفسها، فمن سيؤرخ أيامها ويبعثها إلى فضاء الخلود؟
لذا فالشاعر لا يرحل، فهو حاجة الناس لاستمرارها لما بعد غيابها.
والشاعر أبدي الإقامة؛ ففي كل طفل يصعد للحياة إما يولد شاعر أو يولد صداه.
**
يستطيع الشاعر، فقط لا غيره، في ساعة الرحيل، أن يبني مساحات الخلود. فالشاعر، وهو الذي يجيد نحت المفردات ليشكل بيت الشعر في عنفوانه وقطعة النثر في شكلها البديع، وحده القادر أن يجعل من سيرة الحياة سلسلة كلمات تشع على عنق صبية، ونجوما متهادية في الليل الحالك. 
قبل رحيله، سجل الشاعر لائحة التفاصيل لحفل تأبينه. حدث الخلل لأن الشاعر لم يفطن إلى مهمة كتابة رثائه.. وهكذا.. حين حل رحيله الهادر لم يكن هنالك من يرثيه.
والحقيقة أن الشاعر هو سبب غياب الرثاء، فمَن رَفع الكلمة إلى هذه الذرى، لا يحق له انتظار ذرى أخرى! فأي كلمات ترقى إلى تراكيب الكلمات البديعة: "أحن إلى خبز أمي"، "نيرون مات ولم تمت روما"، "كزهر اللوز أو أبعد"، و"سجل أنا عربي"، و"لا هناك سوى هنا"، و"حاصر حصارك"، و"على هذه الأرض ما يستحق الحياة"..
ستشتغل قواميس اللغة ساعات إضافية تبحث عن كلمات تساعد على فك رموز هذا الراحل الممتنع الفيضان؛
غاب عنا، دون أن يرشدنا كيف نفك الحرف ونبني الجملة.. ولم يكن باستطاعته أن يعلمنا ذلك، ففك حرف الشعر شيء لا تتيحه المدارس بينما تقف التكنولوجيا المتطورة عاجزة، مندهشة، منبهرة، أمام هذا الشيء المسمى محمود درويش.
وفي هذه الأوقات الحزينة، ستُشَطّب مئات الجمل وستُشَطّب آلاف الكلمات الساعية، في الطريق الوعر، لنسج بيت شعر أو نحت مقولة أو رسم فكرة، تعطينا شيئاً منك لك..
وهنالك من الفتية، من هم في مثل عمرك قبل كم كبير من السنين، يكتسحهم الحزن الجميل، يواجهون عناء حياكة حكاية عنك؛ حكاية لم تُحكَ بعد.
وحين يصبح الشاعر وسيرته، مصدر إلهام لفتى، أو فتاة، يشق أو تشق دروب الحياة، يستطيع الشاعر أن يمضي مطمئناً أنه حقق ذاته في جناه.

** 

عندما يولد الشاعر تتجلى الكلمة، بأولويتها وخصوصيتها وخصوبتها..
عندما يموت الشاعر تبقى الكلمة فالكلمة روح الشاعر، ولأن روح الشعر هي الكلمة، فالشعر والشاعر خالدان.
لا بأس، محمود درويش، إن لم نجد الكلمات التي يجب أن تقال فيك، فالحقيقة أننا نخشى أن يكون كلامنا إعادة، غير موفقة، لبعض ما قلته، ولذلك لا بأس أن نقرّ:
كلماتك هي رثاؤك،
وهي أجمل الرثاء.

عودة بشارات
السبت 16/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع