عن محمود درويش وصندوق أبي



مرات قليله التمعت الدموع في عيني أبي ..
ذات مرة، آنذاك.. حينما عانق شجرة الرمان وراء شباك دارنا، فصدته الرمانة عن نزوح كاد يبتلعه ويبتلعنا، قبل أن يطالبنا العدو برفع راياتنا البيضاء معلنين نهاية حرب لم نخضها!!
وفي مرة، بعد "آنذاك" بخمس سنوات، حينما سلمه الحزن على موت أخيه/ عمي إلى بكائية حارقة.. ذلك أن عمي هذا، ذوى شبابه، تحت سقف واطئ من صفيح في مخيم للاجئين شرقي عمان.
.. وفي ثالثة وهو متكئ على إحدى ذراعيه عندما حاول شقيقي الأصغر أسره في الإنصات إلى رسالة كتبها محمود درويش إلى والده الذي مات وهو في الغياب، ونشرتها جريدة الشعب المقدسية في 28 ايار قبل 21 عامًا.
آنذاك، ما ان انتشلتنا "الرمانة" من بين فكي النزوح، مسح دموعه برسغيه، تنهد كأنما عادت روحه إليه، ثم "نزح بنا" إلى اقرب مغارة كي نختبئ من "حرب" اكتشفنا فيما بعد أنها لم تقع!
وفي "الثانية"..  كان أبي يقلم أغصان الدوالي المسدلة على وجه التراب في كروم للعنب تطل على غرب يكاد يذوب في البحر على حافة واد كنت أظن (قبل أن ادخل المدرسة واعرف أن أرضنا الصغيرة تدور) أن الله خلقه كي تنام الشمس بين أشجار الصنوبر عند آخره....
ما ان شرع كحداء تملكه الحزن، التمعت الدموع في عينيه: 
"جمال محملة و.. أجراس بترن
وأيام انقضت... يا خوي ع البال بتعن
حملت جمالي ورحت أبيعهن
غريب بلاد.. ما شرى مني حدا"
... ثم غرق صوته في نشيجه المخنوق!
أما في الثالثة، فقد كان صعبا على شقيقي الأصغر وهو يتلو "ونهاني عن السفر" أن يقنعه بقراءة تسرق من الإيقاع تباريح الوجع، فأومأ إليّ كي أقص عليه "الحكاية".
كنا وهو وبعض إخوتي، على أمسية اعتيادية في "دارنا الجديدة" التي لم تكن في الواقع، سوى غرفة ضيقة تمكن من بنائها إلى جانب "دارنا العتيقة" بعد سنوات من مكابدة الصخر في مقلع للحجارة يطل على واد آخر...
ذاك الوادي، لا أزال أراه مسكونا بعطش الانتظار إلى فيض من الماء كي يصير نهرا..
قال "الدرويش":
سامحني يا أبي، لان ما بيننا من أيام مكسورة لا يكفي لان أكون جديرا بالعرق الذي غرفت منه لغتي.
وقال: هل كان عليك أن تصمت كل هذا الصمت، خمسة وسبعين عاما، لكي أتعلم كل هذا الكلام الذي لا يشبه سنبلة، ولا يقوى على إيصال دمعتي إليك..
إلى أن قرأت:
وأبي يا أبي
غض طرفا عن القمر
وصلى
لسماء بلا مطر
ونهاني عن السفر
وأبي قال مرة: الذي ماله وطن
ماله في الثرى ضريح
ونهاني عن السفر...!
وسامحني يا أبي.
لم أكن اعرف، قبل أن أتلو عليه وجع الشاعر انه (والدي) سيفر من غصة الحلق التي أطبقت على روحه إلى كل ذلك البكاء الذي يقطع نياط  القلب... يا الهي (قلت) أهي مصادفة أن يدخل أبي "بيت القصيد" ويبكي دونما احتراس من أولاده الذين سيورثهم من بين أشياء قليلة إحدى وصايا أبيه إليه: "البكاء خلق للنساء"!
قبل أن اطوي الجريدة لكي أعيدها إلى جيب قميصي في ذلك المساء القائظ قبل 21 عاما.. طلب والدي الذي "خان" إحدى وصايا أبيه ودخل نص الشاعر "الدرويش" (كما صار اسمه لديه منذ ذلك الحين) أن أسلمه "بيت القصيد" ومنذ تلك اللحظة صارت صفحة الجريدة/ رسالة الشاعر إلى أبيه.. واحدة من ممتلكاته المخبأة في صندوق يواظب إلى الآن على إغلاقه بقفل صغير!
في صندوق أبي الخشبي الذي صنعه بيديه لا يزال محمود  "الدرويش" مخبأ في طية الجريدة، مع كواشين الأرض ووصية جدي ومفكرة حمراء ابتاعها لكي يؤرخ على صفحاتها الصغيرة باقتضاب "الأحداث الجسيمة".
... منذ ذلك المساء ظل محمود درويش احد ثلاثة أثيرين لديه وجديرين بالإنصات، بعد المقرئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وحامل أحلامه الكسيرة "رئيس العرب" جمال عبد الناصر.
بعد 20 صيفا على ذلك المساء/ بعد 35 عاما على فجيعته بأخيه/ وبعد 40 عاما على "حرب" أصابتنا بالكساح، تكاد تكون الدموع ذاتها تلك التي التمعت في عيني أبي وهو ينصت إلى قصيدة "الدرويش" حول "حزيران" غزة في الصيف الماضي "أنت منذ الآن غيرك!".. تليت عليه:
"أعجبنا حزيران في ذكراه الأربعين: إن لم نجد من يهزمنا ثانية هزمنا أنفسنا بأيدينا لئلا ننسى!
.. ثم: أنا والغريب على ابن عمي، وأنا وابن عمي على أخي وأنا وشيخي علي!
.. وأيضا: "لولا أن محمدا هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابة نبي، ولكل صحابي ميلشيا!".
قال أبي: هذا كلام يوجع القلب، ثم تسلم الورقتين. طواهما بعناية وخبأهما في جيب اقرب إلى الضلوع (ربما على الطريق إلى صندوق الأسرار الخاصة لرجل تعدى عمره السبعين) والى ارتعاشات القلب الواهنة لفلسطيني بسيط لا يزال يبرع في الحزن، كما يبرع في التذكر حينما يصاب الآخرون بالنسيان!
مساء السبت لم يبك أبي.. لم ينبس ببنت شفة، كان تحت الوطأة الثقيلة لموجة جديدة من وجع القلب غير انه بعد يوم، تأمل صورة للشاعر اتشحت بالسواد.. وصورة لصبايا حزينات أوقدن بين أصابعهن الشموع في "ميدان المنارة" في رام الله، ثم تساءل ما إذا كان "الدرويش" سيدفن في ضريح اقرب إلى "عرفات"...؟!


 
*صحافي وكاتب فلسطيني

فالح العطاونة
السبت 16/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع