الانتصار الأخير



* تحوّل شعره من محدودية القضية الفلسطينية إلى الأفق اللانهائي لمعضلات الحضور الإنساني، وقيل إنه انتقل من أسئلة الحق العادل في الأرض الفلسطينية وحلم العودة إلى شجرة الزيتون ورائحة زهر الليمون إلى أسئلة المصير الإنساني *

محمود درويش واحد من أكبر شعراء العربية على امتداد عصور الشعر العربي، بل من أكبر شعراء العالم المعاصر كله استوعب ميراث الشعر وانطلق به إلى آفاق لم يصل إليها سواه، فكان شاعر القضية الفلسطينية، كما تعودنا أن نصفه، نحن النقاد الذين عرفنا قدر شعره والذرى التي وصل إليها، وظل يحاول مجاوزتها إلى ما هو أرقى منها، كأنه لا يتوقف عن الصعود إلا ليصل إلى النقطة المستحيلة التي تنطوي على كل أسرار الشعر والحياة والوجود وظل شعره، منذ قصائده الأولى، شعر قضية لم تفارق إبداعاته المأساة الفلسطينية، فظل منتميا إلى الفلسطيني المقموع، صاحب الأرض المغتصبة، المغروس في ترابها، النابت من أعماقها، الناطق بحق الفلسطينيين العادل في العودة إلى أرضهم وترابهم، واقفا بصلابة ضد سارقيهم وقامعيهم، وخائنيهم والمنقلبين عليهم، ورافضا ومدينا كل من أعان، ولا يزال يعين على بقاء وضعهم الإنساني على ما هو عليه ولأنه وهب حياته الإبداعية كلها للقضية الفلسطينية، حالما بالعودة، قابضا على فكرة الحل العادل للمأساة الفلسطينية كالقابض على الجمر، في وطن هو الجمر بعينه، ولأنه كان ثابتا على المبدأ، عميق الالتزام بقضيته التي نفذ إلى قرارة القرار من أعماقها الإنسانية، فإنه لم يعرف التبدل والتحول، والتراجع والتنازل، ولا الرجوع عن المبادئ التي حلت منه محل الروح في الجسد، فظل يغوص في أعماق الحزن الفلسطيني البعيد الأغوار، إلى أن وصل إلى جذره الإنساني في قرارة القرار من أعماق المأساة الفلسطينية التي رآها مأساة إنسانية، غاص فيها إلى أن رأى الكل في الجزء، والمأساة الكونية في المأساة الوطنية، حيث الموت الغادر الذي يهدد الحياة بأسرها، والعدم الذي يتربص بالوجود كله، فإذا به، مع عمق الرؤية واتساعها، مقابل ضيق العبارة ومحدوديتها، يتوغل وراء تجليات الرموز، باحثا عن العام في الخاص، الإنساني في المحلي.
وقابله الجدار المستحيل لمدار الوجود المغلق المنكفئ على أسراره، فلم يقف عاجزا أمامه، بل ظل يقرعه بالأسئلة، ساعيا لأن يحفر بشعره كوة في جدار الصمت الكوني، كي يدخل منها الضوء، ويغدو واحدا من الذين رأوا ما لم يره غيرهم، ويسمع ما لم يسمعوه، أداته في ذلك المجازات والاستعارات والتمثيلات والكنايات التي صاغها الحدس الثاقب والبصيرة المرهفة التي تشف حتى تتكشف أمامها الأستار والحجب عن كل الأسرار هكذا، أصبح شاعر قضية إنسانية، قضيته الوطنية والقومية هي المركز، المبدأ والمعاد، منها تنطلق كل هموم الإنسانية وتعود إليها كما يعود النهر إلى مصبه، والحضور في الوجود إلى منبعه وعلة وجوده الأولى، فأصبح يوصف بأن شعره تحول من محدودية القضية الفلسطينية إلى الأفق اللانهائي لمعضلات الحضور الإنساني، وقيل إنه انتقل من أسئلة الحق العادل في الأرض الفلسطينية وحلم العودة إلى شجرة الزيتون ورائحة زهر الليمون إلى أسئلة المصير الإنساني، وأهمها سؤال الموت وتحديات الضرورة في الوجود ولم يكن الأمر أمر تحول أو انتقال من حال إلى حال، بل حال واحد ممتد، متعدد التجليات، يتحرك في ما يشبه حركة الدائرة التي، مهما تباعدت عن نقطة البداية، تعود إليها، مدركة مأساة الوجود كله في مأساة الشتات الفلسطيني، وصراع الشر والخير في صراع الأخوة الأعداء الذي يعميهم عن الحضور الفاعل في الوجود العام والخاص، وكان لا بد من أن يواجه قضية المصير الإنساني في النهاية، لكن من زاوية المصير الفلسطيني، والمصير هوة تروع الظنون، ليس في أعماقها سوى الموت الذي لا بد من أن يراه، ويواجهه من يطيل التحديق، ولا يكف عن السؤال، ويظل يتلظى برغبة المعرفة المحرقة وكان محمود درويش واحدا من هؤلاء أعني أصحاب الرؤى الوجودية الكبرى من شعراء الإنسانية كلها.
ولم يكن يخاف الموت بسبب قلبه العليل الذي أنهكه الهم الفلسطيني الذي يتزايد تعقيدا ومأسوية، فقد رأى الموت من قبل، كلما فتح الأطباء قلبه ليعالجوا ضعفه، وكان يتحدث عنه، في «جدارية محمود درويش» البديعة، كما لو كان يتحدث عن كائن رأى منه ما لا يُرى، أو كما لو كان يحدِّق في أرض هاديس التي لا يعود منها أحد، ولكنه عاد، متشبثا بحياة الإبداع التي كان يراها أقوى من الموت، وظل يؤمن بأنها تقهر الموت، ولذلك صوّر، على نحو لا ينسى، صراع الموت والإبداع، في تاريخ البشرية التي لا تكف عن مقاومة الموت المحيط بها، ولا يكف هو عن التربص بها، حتى في كل هزيمة له منها، وذلك في الجدارية التي أراد بها تخليد انتصار الإبداع، دائما، وفي كل تجلياته وأنواعه، على الموت وحين أثقلت قلبَه علتُه، هذه المرة، ذهب لصراع الموت، وأسلم قلبه الذي تكاثرت عليه الأحزان الفلسطينية، مع تصاعد صراع دامٍ عبثي للإخوة الأعداء الذين نسوا قضيتهم الكبرى، ومع تصاعد قمع إمبراطور العالم الجديد، في العالم المملوء أخطاء، في التابوت الممدد من المحيط إلى الخليج، لم يستطع القلب المثقل أن يحتمل مباضع الجراحين، فتوقف عن النبض لكن محمود، في فعله ذلك، كان يحقق انتصاره الأخير على الموت، بعد أن تأكد أنه قهره بالإبداع الذي يظل خالدا، والدواوين التي يغدو كل واحد منها جدارية لن تفارق أعين الأجيال القادمة وقلوبهم وعقولهم في آن، وكان موت جسد محمود درويش، هذه المرة، تتويجا لكل مواجهاته للموت الذي ظل يراه منذ دواوينه الأولى في الأرض التي انتسب إليها، إلى دواوينه الأخيرة التي رأى، خلالها، الموت في داخله، فصارعه ليقهره، ومضى محاصرا بالموت في الداخل والخارج، لا يكف عن الصراع، إلى أن انتصر أخيرا على الموت، وخادعه وخدعه، عندما أسلمه الجسد الفاني واستبقى الروح الخالد الذي حلّق بعيدا عن الموت، عائدا إلى جوهره الأنقى وحياته الأبدية، محققا نبوءته الشخصية التي همس بها إلينا، عندما قال في الجدارية:
«سأصير يوما طائرا، وأسُلُّ من عدمي
وجودي، كلما احترق الجناحان
اقتربتُ من الحقيقة، وانبعثتُ من الرمادْ».

(مصر)

جابر عصفور
السبت 16/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع