البعد الاخر للموت



هل الموت نهاية الحياة ونهاية الحب ونهاية الوصل والفرح والحزن والكآبة ؟
هل هو نهاية كل شيء؟ هل هو الحد الفاصل بين قيمتين وكيانين، الحياة والعدم ؟
الحياة تجسدت وتبلورت والتقطها الادراك الحسي  للبشر منذ ان وجد البشر. انغرست  في ذاكرة الموجودات  التي نراها ونشعر بها، والتي يخال لنا اننا نعرفها وان لم ندرك كل مكوناتها . يخال لنا احيانا اننا  نعرف سبب وجودها  ...اي الحياة والغاية من هذا الوجود، واحيانا  كثيرة لا ندري الى اية غاية نسير.
اذا الحياة في نظر الراحل الكبير محمود درويش  هي الحضور اذا حسبنا تسميته للموت بالغياب . الحضور او الحياة قد تتجلى بصورها  المتعددة الجميلة منها التي تبعث في النفس البشرية  شعورا بالجمال  رائعا في وقعه  ومثاليا في صيرورته وتصوره . هذا الشعور  يشبه حديقة الحياة المفعمة بالحب والجمال والفرح وزهر اللوز وشقائق النعمان، ورائحة القهوة  في الصباح  وطعم لقمة الخبز المغموسة بزيت الزيتون . فيها القمر الراقص  على اغصان الزنزلخت  في ليلة قمرية  وفيها قطرات الندى على زهرة نرجس برية ترقص على وقع نسيم الصباح الاول الذي وصل اليها على جناح السحر.
في هذه الحياة النقائض  لهذا الوجود الجمالي المثالي . فيها القبح والخسة والكره والحسد  وقد تجسدا على هيئة انسان آت ربما من عالم آخر . فيه حدائق شيطانية  تنمو بترابها العفن زهور سوداء كسواد الليل  وتخفي في طياتها نفوسا  مريضة حاقدة .. وفيها فحيح الافاعي ولسعات العقارب والبؤس والفقر والعوز وغياب الحريات والاحتلال التي تكور وتصور.. وغدا نزيل الطرقات وضيف البيوت الانسانية بلا دعوة ولا ترحاب.
اما العدم او ما بعد الموت  او كما سماه الشاعر " الغياب "  فهو حالة غامضة
 مجهولة تبدأ بعد الموت، لا نعرف بدايته الاكيدة ولا نهايته ولا ندري اسراره  وكياناته ولا نظم  عيشه وحياته ولا ادبه وفنه وشعره ولا حتى لغته. لقد تسنى للشاعر الكبير الراحل استطراد  نادر وتامل  فريد في هذا العدم وهذا " الغياب "  وهو بعد في ذاك البرزخ القصير الذي يوصل بين الحياة والموت . رآه ودعاه " الابدية البيضاء" وكان مستعدا على خوض غمار هذا المجهول الذي تشيب من ذكره الولدان،  والبحث عن المعاني والموجودات التي تلفها معها هذه الابدية البيضاء الازلية التي لا يعرف حتى الآن احد كنهها، والتي لم تسمح لزائريها ابدا بالرجوع منها واستقبلتهم  ببطاقة دخول  لمرة واحدة و بتذكرة سفر  في اتجاه واحد لا رجعة منه .
معضلة الموت والحياة.. الحياة وما بعد الموت .. الموت والخلود.. الطبيعة وما وراء الطبيعة  هي بذاتها  معضلة  الوجود الانساني كله الاساسية ومنذ ان بدأ هذا الوجود . " ألأنا " الموجود هذا سأل نفسه دائما عن حالته بعد حالة الموت
هل سيبقى هذا " الانا "  ام يزول وكأنه  فص ملح وذاب ام يتحول الى " انا " آخر  في عالم اخر له نظمه ووقعه الخاص .
ألانسان الحاضر المنتصب ومنذ ان نزل عن الشجرة ودب على قدميه يسأل نفسه عن البداية والنهاية وعن غاية هذا الوجود والى اين خطاه و ما الهدف  من الولادة والطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة والموت  واين المصير ..هكذا دواليك .
ما هي غاية الولادة اذا كانت نهايتها الحتمية الموت ؟ ماغاية الشباب  اذا كانت نهايته الشيخوخة والعجز والقبر . نسعى في مناكب الارض نفرح ونحزن ونتأمل  ونندم  ونمرض ونموت ؟
كلها تناقضات وجودية  ازلية لم تجد لها لا العلوم ولا الفلسفة بعد حلولا مقنعة وجوابات وافية  وبصيرة حتى الآن.
تحايل البشر  على الموت وحاربوه وصارعوه وحاولوا  تخطي سياج بيدره الى تلك " الابدية البيضاء"  المرجوة ولم يفلحوا . جلجامش بنى اسطورة الخلود  الاولى  لكن الموت اقتنصه هو الآخر كما اقتنص رفيق روحه وصديقه انكيدو ولم يخلف للزمن لا الواحا  مبعثرة مهشمة  عن ملحمته الشهيرة  في صراعه من اجل البقاء الابدي . الاغريق القدماء  خلقوا الهة اسطورية  انسانية الملامح واسكنوها " الاولمب " العالي كعش النسر القريب من انعتاق ازرق لا متناه .تزاوجوا معها  بأمل الخلود في ذاك الانعتاق الابدي ولكنهم لم يصلوا الى الحد الفاصل  بين الوجود وعدمه بين الحياة و" الابدية البيضاء " .
الاديان التوحيدية الثلاث اوجدت الاله الواحد  جل جلاله الذي اوجد الحياة الصالحة و الطالحة للبشر واقرت ان نهاية الموت هي  "دار الحق " فيها جنات خلد  تجري من تحتها الانهار ..انهار الحليب والعسل وتجول بها العيون الحور والقدود الحريرية التي تخلق حبا ابديا لا ينتهي . في دار الحق ايضا جهنم ونار ابدية تأكل ولا تشبع  من اجساد المارقين على ارادة الله  جل جلاله .
فلاسفة المادة  اقروا وبرهنوا على خلود المادة وتحولها  من صورة الى اخرى الى ما لا نهاية . الشاعر بعد الموت يرجع الى الحياة زهرة  لوز والعاشق  حصان جامح يصارع الريح والحبيبة سوسنة حمراء والفيلسوف ذبالة  شمعة لا تخبو والكاتب حروف وكلمات تكتبها الريح  في كتاب الحياة والموسيقي سوناتا  تعزفها العاصفة والعامل مطرقة حديدية تغرز اوتاد الحياة ولاعب الكرة  عشبا اخضر والام  هالة ضوء دافئ والاب عباءة فارسية لاتخترقها نوائب الدهر والجد رائحة الارض والتبغ والقهوة  والابن نحلة تقفز من زهرة الى اخرى والبنت طوق ياسمين .. الى ما لانهاية .
 الثورة العلمية  الحاصلة وخاصة اكتشاف الجينوم البشري اكدت ما فرضته الفلسفة المادية  وقانون بقاء المادة وتحولها لكنها الى الآن لم تدرك  ابعاد هذا التحول  وازمانه  ولا حالات الانتظار للتحول من حال الى حال .
حدث لي انني سمعت من طبيب صديق في مدينة بعيدة حدثني مرة عن شهادة مريض  بعد اجرائه عملية  جراحية هناك لتبديل الشرايين التاجية للقلب فاقت الخيال . حصل ان قلب ذاك المريض توقف  خلال العملية  ودخل عمليا وعلميا  في حالة الموت السريري . رأى نفسه غائرا  في سرداب معتم اسود رهيب  في نهايته  ضوء غزير شديد البياض  شده نحوه باغراء كل العالم  وشوقه الى درجة الادمان  .عندما  وجد نفسه  هناك وسط الهالة البيضاء  لم يرغب العودة منها وفضل البقاء في سحرها . راى نفسه محلقا فوق رؤوس الاطباء الذين اذهلتهم حيرة توقف القلب خلال الجراحة  وعملوا جاهدين على اعادته  الى الحياة والى الخفقان ونجحوا واعادوه الى هذه الحياة .
قرات كثيرا عن مثل هذه التجارب الغريبة ولكنها الى الآن لم تثبث علميا ولم توثق.
فسر العلماء والاطباء الامر كل مرة على عادتهم وقروا ان سبب تلك الحالات  النادرة والغريبة ناتج عن نقص  حاد في اوكسجين خلايا الدماغ نتيجة توقف القلب  عن الخفقان ومن ثم توقف الدورة الدموية وتدفق الدم الذي يحمل للخلايا العصبية الحياة واكسجين الحياة .
هل هذه هي  " الابدية البيضاء " التي كتب  عنها هذا الشاعر الكبير  وقد عايش الموت السريري مرة واحدة على الاقل . هل هذا هو سبب خلق " الجدارية "  الرائعة التي تعد وبحق من اروع ما كتب عن الموت والحياة  في تاريخ الادب والشعر العالمي كله في مختلف عصوره.
خاطب هذا الشاعر الفذ الموت بجداريته  بشجاعة  نادرة ورائعة وبلغة  اشد روعة  من زهر اللوز قائلا وهو الواثق من قدرته وجهوزيته لصراع الموت والانتقال الى حياة حية بيضاء وابدية
" أيها الموت انتظرني خارج الارض ..انتظرني في بلادك ريثما انهي  حديثا عابرا مع ما تبقى من حياتي " ..نعم هكذا بلا وجل ولا خوف خاطب عدوا ليس خائفا منه بل ندا له تغلب عليه وسبقه الى " الابدية البيضاء " التي لن تطأها يد الموت ابدا لانها حقيقة الخلود ذاته لشاعر كبير وشجاع ورقيق مثله وللبشر العظام الذين وصلوا اليها قبله والذين خلفوا اعمالا انسانية او فنية وروائع ادبية وشعرية سامية  حلقت بهم بعيدا  عبر حدائق الموت ودهاليز الشيطان واصبحوا في مدى ابيض رائع له  وقعه وزمنه ولغته وحياته الخالدة التي لا نستطيع سبر غورها وكشف سرها مع ما تقدمة لنا  الحياة اليوم من الامكانيات التقنية الهائلة الحاصلة والمتوفرة.
انا رأيت الموت مهزوما  فوق تلك الرابية التي تطل على القدس حيث سجي جسد درويش تحت التراب . صدح صوته بشعره الرفيع  وكان الكون من حوله هاجعا حزينا على فراق هذا الشاعر النادر . وقف الناس  وكأن على رؤوسهم الطير وكان ذاك الصوت آت فعلا من تلك الابدية البيضاء الساحرة  التي سحرت درويش نفسه  واخذته اليها بشغف عاشق ولهان  بعد ان تهيأ  لها واعد حقيبة السفر  في اتجاه واحد ليس منه عودة الى عالم نعرفه ونحياه ولا ندري احيانا كثيرة كيف ؟ ومتى ؟ ولماذا ؟ . شعره الرائع  كان سلمه للخلود مكللا بطوق من الياسمين الابيض الناصع البياض وبثوب حاكه لنفسه  من زهر اللوز ومن سنابل خضراء وزينه بشقائق النعمان  وقصفات الحبق.
على تلك الرابية  وخلال دفن الجثمان تحت التراب انتدبت  صبية فلسطينية  مكانا قصيا مخلفة آلاف المشيعين الذين تجمعوا حول الجثمان ولم يصدقوا انهم بايديهم يوارونه التراب . تاهت   بوجهها الاسمر الجميل  وبشعرها الاسود الفاحم  نحو الشمس التي وقفت في كبد السماء مائلة الى البياض . ربما بحثت  عن طريق الشاعرالكبير الذي خبر الملأ قبل الرحيل واثناءه انه ذاهب  الى انعتاق  ابيض  في سفرة بيضاء  منمقا مزخرفا حالما بحياة اخرى  جديدة وبمرحلة حب وعشق جديد بعد ان غمر  هذا العالم القاسي عشقا وحبا  . حاور الموت وانتصر عليه  ونفذ  من براثنه والاعيبه  التي يمارسها على البشر العاديين . ربما كانت دموع  تلك الفتاة الفلسطينية الجميلة محطة لشعاع ابيض آت من هناك عما قريب .
هل هذا هو البعد الآخر للموت ؟
هل وجد محمود درويش  هذا البعد الآخر  الذي بحث عنه الشعراء والفلاسفة منذ الازل ولم يجدوه ؟.
انا ارى هذا البعد الجمالي الشفاف  متجسدا بكلمات وابيات قصائد الشاعر وبروعة ما كتب . منذ ان خطت انامله اول قصيدة  حب وقصيدة عشق لوطن اصبح مع شعره وكأنه قطعة جميلة من فردوس  جميل لا نهائي الى قصيدته الاخيرة ورمية نرده الاخيرة . الطريق الى الخلود اجمل من الخلود ذاته  والطريق الى الحب اجمل من الحب ذاته والطريق الى الموت  بعد ان خلق هذا الشاعر  الانساني الكبير البعد الآخر للموت  اصبحت بيضاء نقية كنتف الثلج . مع درويش غدا الموت  " موتا جميلا " اذا جاز لنا هنا هذا التعبير .

(شفاعمرو)

د. فؤاد خطيب *
الأثنين 25/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع