كل إنسان فلسطيني هو محمود



عندما كانت إبنتي الاولى "هلين" في الثامنة من عمرها آنذاك تقريبا.. ظهرت أغنية الغاوي نقط بطقيته.. فأعجب بها محمود حينها كثيرا وصار يرددها دائما على لسانه كلما كان يأتي إلينا أكثر من أية أغنية أخرى.. فصارت ابنتي في ذلك الحين كلما تراه تطلق عليه بعفوية طفولية بريئة بالغاوي.. جاء الغاوي وذهب الغاوي  حتى بات هذا اللقب يعرف به بين بعض الذين يترددون علينا.. فرحيل محمود الفجائي المفجع كشاعر وطني وثوري وإنساني بهذه العجالة أعادني بالذاكرة الى الوراء الى اكثر من أربعة عقود من الآن الى اوائل الستينيات من القرن العشرين الماضي.. حيث كان الراحل في ذلك الوقت في اوائل العشرينيات من عمره وفي أول خطواته الشعرية الابداعية الأولى الواعدة يتدرج خطوة.. خطوة الى الأمام ويتصاعد في شعره من الاحسن الى الاحسن.. فكان هو الآخر يتردد الى مكان عملي المهني " الغسل والكي" الذي أعمل به ولا ازال أعمل به حتى الآن بالرغم من تقدمي في السن.. كان محمود مثل غيره من أولئك الذين كانوا يترددون علي آنذاك مثل المرحوم الدكتور إميل توما والشاعر عصام العباسي والشاعر توفيق زياد والشاعر حنا أبو حنا والكاتب إميل حبيبي ومحامي الشعب والارض حنا نقارة وغيرهم وغيرهم من الكتاب والأدباء والشعراء ومتذوقي الأدب حتى بات يطلق على مكان عملي المهني بالملتقى الثقافي وبسوق عكاظ أيضا.. ولا يزال يطلق على مكان عملي المهني بهذا الاسم الذي اعتز  به كثيرا.. كان محمود في ذلك الوقت هو الآخر من الكتاب والشعراء الواعدين مثل راشد حسين وسميح القاسم وفتحي فوراني وعيسى لوباني وسليم خوري وحبيب شويري وتوفيق فياض وسالم جبران وغيرهم وغيرهم يأتي الى دكاني ويجلس على كرسي صغير من قش حيث بات ذلك الكرسي يعرف بكرس محمود او بكرسي الغاوي ولا احد يجرؤ أو "يسترجي" يجلس عليه سواه ويقرأ علينا ما يكتب من شعر ونشر ايضا قبل ان ينشره في صحيفة "الاتحاد" او مجلة "الجديد" او مجلة "الغد".. أذكر مرة ان اعترض المرحوم عصام العباسي على مقطع واحد من قصيدة له.. "ويا حرة مع مين علقتي" كما يقولون.. كان محمود في ذلك الحين نحيلا جدا مثل "العودة" وعصبيا كثيرا ويثور ويحتد لأية كلمة توجه اليه "كنقد".. حيث قال له عصام آنذاك يا رفيق محمود.. هذا المقطع من هذه القصيدة ناقص ويحتاج الى مراجعة.. فرد عليه محمود آنذاك بكلمة غير.. لائقة على الاطلاق مما كاد يعكر الجو في المكان ويفسد العلاقة الادبية الحسنة بين الشيخ في الشعر واللغة آنذاك أي عصام وبين إبنه الواعد بالشعر آنذاك أي محمود.. كان المرحوم الشاعر عصام العباسي في ذلك الوقت يكبر محمود بأكثر من عشرين عاما وله باع طويلة في اللغة والشعر والنثر ايضا وأشهر من نار على علم.. فقال لهما إميل توما بلهجته الرزينة الهادئة التي كان يتسم بها كثيرا.. إعقلوا يا رفاق.. إعقلوا من أجل أبي الطيب ومن أجل إبن خلدون الذي كان المرحوم يوقع مقالاته ودراساته الفكرية والنقدية آنذاك التي كان يكتبها في صحيفة "الاتحاد" ومجلة "الجديد" تحت هذا الاسم المشهور إبن خلدون المستعار.. وكان محمود في ذلك الوقت يسكن في حي عباس عند امرأة مسنة.. حيث أخذ محمود يتطور شعريا ويبرز على الساحة الأدبية كشاعر وطني وثوري يساري اكثر من أي شاعر تقدمي آخر ويحتل مكانة مرموقة عالية جدا في القلوب والنفوس خصوصا في قلوب الشبان والشابات..مما جعل السلطات  في ذلك الوقت تتخوف منه ومن اشعاره كثيرا وتحسب له حسابا فأخذت تلاحقه وتطارده مثلما تلاحق كل كاتب وكل شاعر آخر وتضع امامه العقبات.. ففرضت عليه الاقامة الجبرية التعسفية  من الخروج  من مكان سكناه في ساعات الليل لكن  محمود  كان يتحدى  ويكسر أمر الاقامة الجبرية  ويأتي الى منزلي الذي كان لا يبعد عن مكان سكناه سوى عشرات الامتار ويبقى ساهرا عندي الى ما بعد منتصف الليل بكثير.. ندردش.. وفي احدى الليالي تجمع عندي عدد كبير من الكتاب والادباء والشعراء ومتذوقي الشعر والادب والفن وكأن واحد من أولئك الأدباء يحمل في يده هدية اطفال.. فتقدم من إبني حسام الذي  كان في ذلك الوقت في.. الثانية من عمره تقريبا ويا دوبك يتكلم ويلفظ حرف الكاف بالتاء.. فقال له ذلك الكاتب مين.. أنا يا حسام..؟ فرد عليه حسام بلغته الطفولية البريئة "أنت تلب أنت تلب" أي أنت كلب .. وعينك ما تشوف محمود في تلك اللحظة وكأنه ما صدق على الله أن يسمع مثل ذلك النعت.. فكاد يسقط.. عن مقعده وهو يضحك ويضحك ويردد بأعلى صوته خلاص من الآن وصاعدا أنت تلب وإبن تلب ايضا.. هكذا قال حسام وما في رجعة في قول حسام.. سلم لسانك يا حسام يا إبن أبو حسام.. لقد كان محمود خير صديق وخير أنيس وصاحب طرفة.. ينكت أحيانا ويضحك ويبسط مستمعيه.. وكان يطرب لكل طرفة.. يسمعها خصوصا إذا كانت "تواسيه من الزنار ونازل ومن قاع الدست" كان محمود يصف المرأة التي تروق له محاسنها وفتنتها "بالزقوطة" أي بزقوطة البطيخ.. لقد كان محمود بالفعل في حياته يعتبر كل.. فرد فلسطيني.. ولكن بعد رحيله سوف يتحول كل إنسان فلسطيني محمودا.. فالشعب الذي أنجب محمود من رحم النكبة الفلسطينية وجعله شاعرا بهذا الوزن الثوري الوطني الانساني العالمي.. قادر أن ينجب محمودا آخر بل قادرا على أن  ينجب محاميد آخرين ليواصلوا المقاومة بالكلمة التي هي أقوى من أي سلاح آخر..

( حيفا )

نجييب سوسان *
الأربعاء 3/9/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع