ذكريات عنك ومعك يا محمود..!



الوداع لوجودك الجسدي، والخلود لتراثك الادبي.. ولاحرف اسمك الخمسة م.ح.م.و.د بترتيبها الافقي

 

ها قد اضطرني الموت، باختطافك المفاجئ والابدي، ان الجأ الى وداعك على الورق، بعد ان رفضت قبل ما يقارب اربعين سنة ان اودعك حيا!! يومها، اكتفيت بالقول لك، الى اللقاء، والهواجس تأكلني حيرة فيما تضمر!! هكذا انتظرت السنين ان القاك على انفراد ولو بخمس دقائق لأطرح على مسامعك حالي يوم حبست كلمة "وداعا" بين شفتي وما زالت محبوسة حتى الآن. لم تسمح لي الظروف ان القاك على انفراد. ولم يمهلك الموت لأظل على امل ان القاك. فقررت سرد الحكاية على الورق.
فلماذا اختارك الموت انت؟!
هل اراد الموت قهرنا بموتك؟!
هل اشفاه سيل الدموع التي انهمرت حزنا عليك؟!
وهل اسعدته حرارة زفراتنا لهفة وشوقا اليك؟!
قد يتذرع الموت بأنك استفززته باعلانك على مسمع الدنيا انك مستعد للرحيل!!. وانك لا تطلب اكثر من عشر دقائق تنظر فيها للمرآة وتصفف شعرك وتخرج جاهزا لملاقاته!! فلماذا استعجلت يا محمود في اعلانك المشؤوم ذاك وانت المنشد
"على هذه الارض ما يستحق الحياة".
قد يلجأ الموت الى الادعاء انه امهلك اكثر مما طلبت..! وانه ابتعد عن عتبة بيتك بعيدا بعيدا. فلما خرجت ولم تجده طرت تلاحقه الى آخر الدنيا.. الى امريكا.. واسلمت نفسك لزبانيته. دون ان تشفع لك ايادي الرحمة التي امتدت لانقاذك.. فهل لحقت به الى هناك لتبرهن له انك وفيّ لعهودك حتى ولو للموت نفسه!!؟
ايها المغيّب جسما والحاضر شعرا ونثرا وابداعا. ها هو الموت يضطرني ان ارجع بذكرياتي الى وقوفي معك في مطار موسكو الدولي، كان ذلك لوداعك بعد ان قررت تقصير فترة وجودك في موسكو بشهر او شهرين، عندها اعلنت انك عائد الى حيفا!! وانك ستزور قبل عودتك، مدينة "براغ" ضيفا  على الرفيق الحبيب جورج طوبي، ممثل حزبنا في مجلة السلم والاشتراكية، ومسؤول العلاقة مع طلابنا في دول شرق اوروبا واليونان آنذاك، وقلت انك ستمكث بين طلابنا في اليونان يوما او يومين ثم تعود الى حيفا؟!
كنا قد بنينا صداقة حميمة على امتداد عام من الدراسة المشتركة في غرفة واحدة في معهد العلوم السياسية مع غيرنا من رفاق البعثة الحزبية. وسكنا في نزل الطلبة في غرفتين متجاورتين. فكنا نقضي الساعات الطوال في غرفة واحدة، نسمع الموسيقى والاغاني الجميلة والاحاديث المسلية والثقافية، كانت خزانتك مليئة باسطوانات سيمفونيات بيتهوفن، باخ، برامز وهندل وغيرهم، غير ان معزوفة الترويكا لتشايكوفسكي كانت الاكثر محبة لسماعنا. وكان يحدث ان نقرأ ونسمع ونأكل ونشرب داخل احدى الغرفتين. حتى وصل الامر حد اقتراحك لي ان ارافقك الى نيودلهي، لأكون شاهدك في طقوس تسلمك جائزة "اللوتس" الممنوحة لك من قبل اتحاد الكتاب الافرو – آسيويين برئاسة يوسف السباعي. فقد كان مقررا ان تقوم انديرا غاندي رئيسة وزراء الهند آنذاك بتسليمك الجائزة مع سائر من نالوها في ذلك العام. ولما رفضت ان اعدك بشيء، استدرجتني الى احد المطاعم الرحبة والراقية في موسكو، وادعيت بأنك تريد ان نجلس سوية هناك قبل سفرك الى الهند، وبحجة انك مسافر عن طريق هانوي عاصمة شمال فيتنام، التي كانت تتعرض لقصف الطائرات الامريكية لها بشكل مكثف ومتواصل، وقلت مازحا، لذلك لا ادري اذا ما كنت سأرجع حيا ام لا..!!؟ وعندما وصلنا صالة المطعم، اخترت طاولة تتسع لستة اشخاص، فلما سألتك عن سبب خيارك هذا، اجبت مبتسما، لقد استهواني موقعها وقربها من الخدمات، ولما جلسنا وتوجه الينا النادل، اشرت له بالانصراف، واشرت باليد الاخرى نحو مدخل الصالة، وقلت لي، أترى هؤلاء الثلاثة المتجهين نحونا، سوف يشاركوننا الامسية، وقبل ان استفسر، كانوا قد وصلوا وحيونا ثم ازاحوا كراسيهم وجلسوا، وظللت انا وانت واقفين، حيث قلت، ها هو الشخص الرابع قادم نحونا، انه يفتيشنكو، رئيس رابطة الكتاب السوفييت، وشعرت بعدم الرضى والاحراج، فلما وصل الضيف، صافحنا جميعا ودعانا الى الجلوس، غير ان احد الثلاثة الآخرين ظل واقفا حيث قال، هيا نقدم انفسنا لبعضنا، وعرّف على نفسه انه معين بسيسو، شاعر وصحفي.
ثم صافحنا وجلس، ومثله فعل من جلس على يمينه اذ اعلن: احمد بهاء الدين صحفي وصافحنا وجلس. اما الثالث فقد اعلن انه يوسف السباعي كاتب وصحفي، فأضاف بسيسو ورئيس اتحاد الكتاب الافرو – آسيوي الذي منح الجوائز، فصفقنا طويلا وجلسنا فقام الرابع وقال: يفتشينكو رئيس اتحاد الكتاب في موسكو، عندها طلب الي محمود ان اقدم نفسي فرفضت ان اقوم بذلك قبل ان يقف هو ويقدم نفسه، فوقف وقال: محمود درويش شاعر وصحفي، فنال تصفيقا وعناقا طويلين فتمالكت نفسي وانا اشعر بالاحراج وقلت. غازي شبيطة، محترف عمل حزبي، وهممت بالجلوس، الا ان معين امسك بيدي وقال قبل ان اجلس، انت من قادة اشرف واخلص طبقة اجتماعية، فوق هذا الكوكب. ولن تعود للانسان قيمته الحقيقية الا عندما يملك العمال كل ما هو مسلوب منهم اليوم. بما في ذلك السلطة وثروات الطبيعة بكل اشكالها. وتركني واقفا ليقول: لما ترفض يا رفيق غازي مرافقة محمود الى نيودلهي. فسفرك سيكون على حساب الاتحاد والجائزة، ففوجئت بالسؤال وقلت بحياء: ان محمود يدعوني لأسمى شرف يمكن ان احصل عليه، وسأظل شاكرا له هذا العرض والثقة ما حييت، غير ان اعتذاري عن السفر للهند، ناجم عن التزام قطعته على نفسي تجاه رفيق وقريب يدرس في بولونيا، ووعدته بناء على طلبه منذ اشهر، انني سأكون شاهد عرسه ممثلا للاهل والاقارب. وسيكون العرس في نفس الفترة التي تكونون فيها في الهند. واني لا استطيع خذلانه، كما لا املك امكانية تأجيل العرس، عندها توقف الجميع عن الخوض في الموضوع وجيء بالطعام والشراب لتبدأ السهرة على انغام الموسيقى والغناء، وتبادل الحديث الجذاب وبعض النكات الجميلة، وبقينا على هذا الحال اكثر من ثلاث ساعات عدنا بعدها كل الى مكان نزله.
وفي اليوم التالي، شرعت في تجهيز اجراءات سفري الى وارسو بواسطة القطار وفي منتصف تلك الليلة، كنت في الطريق الى هناك، فوصلت في تمام الساعة الثامنة مساء الى محطة القطار في وارسو، حيث وجدت مضيفي في انتظاري.. وبعد ثلاثة اسابيع عدت الى موسكو لاجدك قد سبقتني اليها، هنأتك بالعودة والجائزة وعيناي تطفحان بدموع الفرح، وقمنا في اليوم التالي بترتيب حفل متواضع للرفاق وبعض المعارف والاصحاب من شتى دول العالم والشرق العربي خاصة، بتلك المناسبة، وبعدها اخذت الايام تعود الى سابق عهدها، بعضها يحمل المتعة والابتهاج، واخرى تحمل الغصة والانزعاج، فخلال ذلك العام قمنا بزيارة اماكن كثيرة وجميلة، في موسكو وليننغراد وغيرهما، وشهدنا اعيادا سوفييتية بمناسبات مختلفة مثل عروض اول ايار، وثورة اكتوبر واعياد اخرى كثيرة.
واستمتعنا بكثير من الحفلات في المسارح الشهيرة ودور الخيالة، والى جانب ذلك، فقد اتاحت لي علاقتي معك يا محمود، ان يحملنا اسمك الى اماكن وحلقات غنية بالفكر والمتعة، حيث لم يكن يتاح لي حضور مثلها لولاك!!.. وفي قاعة الكرملين، حضرنا ضيوفا على المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي.. ومع ذلك فقد مرت بنا ايام كئيبة ومؤلمة، ففي خريف ذلك العام حدث زلزال وفاة جمال عبد الناصر وقضى على كل بهجة او فرحة، فقد انشغل الجميع بالتساؤل عما سيكون عليه الحال بعد وفاته، وظل الحال في صعود وهبوط. حتى وصل يوم مرافقتك الى المطار على اعتبار انك عائد الى حيفا؟!! وفي اثناء وداعك للجميع في مساء اليوم السابق طلبت ان لا يصاحبك احد الى المطار سواي. وفي الصباح جلست واياك في المقعد الخلفي للسيارة التي كلفت بنقلك للمطار، وجلست المرافقة المكلفة بترتيب اجراءات سفرك الى جانب السائق، وعلى الطريق الى المطار استرجعنا الكثير من ذكريات العام الماضي، وفجأة قربت فمك من اذني وسألت، هل تعتقد اننا سنلتقي في المستقبل؟! فاجأني سؤالك وهزني بشكل غريب!! وسارعت بالقول وانا انظر الى يمينك من وراء النظارة البيضاء التي لا تنزلها الا ما ندر!! هل هناك ما تضمره ولا اعرفه!؟ ثم اضفت بهدوء مصطنع، لم هذا التشاؤم يا محمود؟! فبعد شهر سأعود الى البلاد، وفي الاسبوع الاول لوصولي ساتصل بك وسأزورك وادعوك الى بيتي تعبيرا عن رغبتي في استمرار صداقتنا!! وعندها كنا قد وصلنا الى المطار واخذنا بالنزول من السيارة، فنزلت وانت تقول: لا اظن ان ذلك سيكون!! ومرة اخرى طارت هواجسي في شتى الظنون وقلت لك، كفى تشاؤما وولدنة!! وكانت المرافقة قد اخذت اوراقك لترتيب السفر واخذنا نتحدث حول ما نشاهد ونسمع حتى اذا رجعت وسلمتك الاوراق وطلبت اليك مرافقتها الى الطائرة، عانقتني ووضعت رأسك على كتفي وعيناك مغرورقتان بالدمع، سألتني بحزن واضح.
ألا تريد يا غازي ان تقول لي وداعا؟! فاجبتك بجدية، لا بل اريد ان اقول لك الى اللقاء!! فأدرت ظهرك وهرولت الى ارض المطار، وعلى بعد عشرين مترا تقريبا، ادرت وجهك نحوي، ووضعت حقيبتك على الارض، ورفعت كلتا يديك، ولوحت بهما وانت تصرخ، وداعا، ولتوصل سلامي الى كل الرفاق!!! امتلكني الذهول، وصرت لا ادري ماذا اقول او افعل. حتى عادت المرافقة وطلبت الي التوجه الى السيارة لنعود الى المسكن!! وظلت الهواجس والظنون تعصف بي عدة ايام، ثم جاء احد الرفاق وابلغني انك تحدثت من مذياع القاهرة واعلنت انك قد غيرت موقعا وابقيت موقفا؟!!
وبعد اسبوع، وصلتني رسالتك التي تحمل عنوانك في فندق "شبرا" في القاهرة، تطلب مني فيها ان اكون شاهدك ووكيل الدفاع عنك امام الحزب؟!! فازددت غضبا وأسى، واسرعت في تسويد رسالة جوابية ارسلتها على نفس العنوان الذي حملته رسالتك، وملأتها بالملامة القاسية والجارحة. فانقطع كل اتصال بيننا، وبعدنا ما يقارب السنة اخذت كلمات تلك الرسالة تلاحقني وتملأني ندما واكتئابا. وصرت احلم بلقائك وجها لوجه، حتى ولو لخمس دقائق لاعتذر لك واطلعك على الدوافع في الحال الذي كنت امرّ به في تلك الايام. وجدت ان رايتك في الناصرة يوم تشييع جثمان الاديب المبدع اميل حبيبي، غير اني لم انجح للانفراد بك ولو خمس ثوان لكثرة المحيطين بك والمتدافعين لمصافحتك وبنفس الوضع، التقيتك في الامسية الشعرية التي احييتها في حيفا اواسط عام 2006 ولم تنجح كل محاولاتي للاتصال بك.
وظللت اعيش على امل سنوح فرصة العمر ما دمنا احياء. اردت ان احتفظ منذ تلك الايام بأعز ما اهديتني للذكرى، اذ منحتني بعد عودتك من الهند، كل دواوينك الشعرية التي صدرت في الخارج مع اهداءات جميلة على كل واحد منها، فقد كتبت على احدها، "كي تختفي القنابل وتنب السنابل، وكي تدفن البنادق لتتفتح الزنابق". غير ان الاستخبارات الاسرائيلية او كما يطيب لهم تسميتها "اجهزة الامن" رأت فيها خطرا امنيا فصادروها ليبحثوا عن "شيفرة" الخطر بين سطور او على كلمات تلك الدواوين، مع اعتقالي لاسبوعين لنفس الغرض، ولم يعيدوها حتى اليوم. هكذا فقدت آخر شواهد علاقتنا وصداقتنا، وها هو الموت يخطفك ليحصد ما تبقى من امل لي في ان التقيك!!؟ ولم يبق لي الآن الا ان انتظر دوري للحاق بك. ولادفن في موقع آخر في بطن ارض بلادنا وثراها الحبيب!!
فسلام عليك واليك حيا وميتا، فمثلك خالد بتراثه وابداعه، رغم انف الموت وقوته وغياب الجسد، فوداعا يا محمود، ومعذرة على ما حملته رسالتي اليك من كلام ما زلت نادما عليه!!..

(الطيرة)

غازي شبيطة
السبت 13/9/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع